الترند معبود جديد ؟!
ا.د ابراهيم محمد مرجونة
مع إن كل الخلق من أصل طين
وكلهم بينزلوا مغمضين
بعد الدقايق والشهور والسنين
تلاقي ناس أشرار وناس طيبين
عجبي! "صلاح جاهين"
حين تصير الفضيلة صفقة، والستر سلعة، في زمنٍ مسكونٍ بالضوء الاصطناعي، نشأت ديانة جديدة لا تعترف بقيمٍ ولا تؤمن بأخلاق، معبودها “الترند”، وكهنتها من صُنّاع الضجيج، وطقوسها الصراخ، والكشف، والانكشاف. لم يعد الناس يطلبون المجد في العلم أو الأدب، بل يسعون إلى “المشهد”، أي مشهد، ولو على حساب الشرف والستر والإنسانية.
لقد صار سؤال الوجود المعاصر كما قال نيتشه ذات مرة: “كيف أصبح مشهورًا؟”، بدلًا من “لماذا أعيش؟”. والمفارقة أن تلك الشهرة المبتذلة لا تُبنى على المعرفة أو الموهبة أو الإبداع، بل على ما يثير الغرائز، ويهتك الحجاب، ويخترق الخصوصية.
أمام هذا الطوفان، تُداس القيم، وتُهدر الحُرُمات، ويُصبح التدخل في شؤون الآخرين لا مجرد تطفل، بل محتوى مربحًا، ومادة دسمة تُدر على أصحابها آلاف الدولارات، من مشاهدات تُغذِّي فضول الجماهير أكثر مما تُغذِّي عقولهم.
يقول الفيلسوف الفرنسي “غي ديبور” في كتابه مجتمع الاستعراض:
“في المجتمع الحديث، كل ما كان يُعاش بشكل مباشر، أصبح يُمثّل عبر صور”.
وهنا يكمن جوهر المشكلة: لم تعد الحياة تُعاش، بل تُبث. لا أهمية لما يحدث، بل كيف يبدو على الشاشة.
فما بين من يتعمد كشف بيته وأهله أمام الكاميرا، ومن يتصنع المشاكل الزوجية على الهواء، ومن يُثير الجدل بعبارات خادشة للحياء أو مشاهد هابطة… نرى أن “الترند” لم يعد وسيلةً للرسالة، بل صار غايةً في ذاته. والغاية هنا تُبرر كل الوسائل، حتى أرخصها.
أما الخطر الأكبر، فهو في أن هذا الهوس بالظهور يُدر ثروات فاحشة على أصحابه، إذ يتحول الجسد إلى أداة إنتاج، وتتحول الفضائح إلى عملات رقمية، وتُصنع “النجومية” لا من خلال الزمن والجهد، بل من خلال دقائق مصورة تصيب غريزة المتلقي في مقتل.
ويكفي أن تعلم أن من لا يمتلك إلا “موبايلًا” واتصالًا بالإنترنت قد يُصبح مليونيرًا، فقط لأنه “عرف من أين تُؤكل كعكة الترند”. وهنا تكمن الكارثة: عندما يُقاس النجاح بعدد المشاهدات، وتُهدر القدوات أمام نجوم بلا قيمة… عدا قدرتهم على شدّ الانتباه وخلخلة المعايير.
لقد حذّر “جان بودريار” من هذا في نظريته عن الواقع المفرط حين قال:
“لم نعد نعيش في واقع، بل في نسخٍ متكررة من واقع لم يعد موجودًا أصلًا”.
فالترند يُفرغ الحقيقة من مضمونها، ويضع مكانها تمثيلًا مُنمقًا، يُشاهد ويُعاد، حتى يَحسب الناس أن هذا هو الواقع.
وهنا يُفقد الإنسان ذاته… لا يعرف مَن هو، بل ما يريد الجمهور أن يراه عليه. فتتبدل الهويات، وتُمسخ النفوس، ويُصبح الإنسان أسير “الإعجابات”، عبدًا للـ”شير”، مهووسًا بما إذا كان ترند اليوم قد تجاوزه أحد.
أما المجتمع، فيدفع الثمن باهظًا:
• تفكك القيم، إذ يصبح القدوة هو الأكثر “ترندًا”، لا الأعلم أو الأتقى.
• احتقار العمل الجاد، فكل مجتهد في ظلال من لا يحمل إلا هاتفًا وكذبة.
• اختلال وعي الأجيال، الذين يربون على أن طريق الثروة والشهرة لا يمر عبر الاجتهاد بل عبر “الصخب”.
ولذلك، فإن إنقاذ الإنسان من عبودية الترند هو معركة حضارية، تبدأ بإعادة الاعتبار للستر، للخصوصية، للحقيقة، للجهد البعيد عن الكاميرا.
فالشهرة الزائفة، كضوء البرق، يلمع ويخطف الأبصار… ثم ينطفئ في العدم. أما المجد الحقيقي، فهو صامت، هادئ، يتسلل بثبات… لكنه يبقى.
قال تعالى في الآية الكريمة: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ"
صدق الله العظيم
من سورة الرعد (الآية 17)
إرسال تعليق