وقت الشدة .... بقلم ا.د إبراهيم محمد مرجونة

وقت الشدة .... بقلم ا.د إبراهيم محمد مرجونة

 




مقال بعنوان: وقت الشدة 

ا.د إبراهيم محمد مرجونة 



يقال إن الشدائد تختبر معادن الناس، لكن مأساة الغياب في وقت الشدة تتجاوز اختبار المعادن إلى محو القداسة التي كنا نمنحها للعلاقات. في أوج الألم والضيق، حين تحتاج الروح لمن يواسيها ويعينها، يصبح الغياب كالسيف الذي يقطع الوصال ويُزيح القناع عن الوجه الآخر للعلاقة. فتلك اللحظة ليست مجرد مسافة تُخلق بين جسدين، بل هي لحظة كشف وحكم يُعلن تحول العلاقة من قداسة إلى فراغ.


فقد قال أفلاطون في محاورة الودّ بين الأرواح: إن الود الحقيقي هو ذاك الذي لا تهزه الرياح ولا تفتته الظلمات. لكن ماذا لو كانت هذه الظلمات عميقة كلياً، والرياح عاتية؟ حينها، يتحول الغياب من مجرد غياب إلى اختبار الوجود ذاته. والوجود هنا ليس فقط وجود الشخص، بل وجود مشاعر تثمر في قلوبنا معنى وثباتاً.


في الرواية الكبرى للحياة، لا شيء يعادل إحساس الغربة الداخلية الذي يتركه غياب المحبوب أو الصديق أو حتى الأقرب الناس، خصوصاً وقت الأزمات. 


يصف الكندي الغياب بأنه "مرايا العتمة التي لا تسمح للضوء بأن ينكسر بيننا." تفقد العلاقة قوتها لأننا فقدنا المعنى الذي يُغذيها وهو حضور الآخر في ذروة الاحتياج.


وتحت وطأة الغياب، تتبدد القداسة التي منحتها لذلك الرابط، كما يقول سارتر في فلسفته الوجودية: "الآخرون هم الجحيم، لكن في غيابهم في وقت الشدة تصير وحدتك جحيماً أنت تختاره." تلك الوحدة التي تفرضها الظروف ليست فقط فقداناً جسدياً، بل تهجير روحي، حيث يتحول الانتظار إلى قتامة، والاحتياج إلى فراغ مدوٍ.


الأديب الروسي دوستويفسكي، في عبق رواياته، يكتب عن اللحظات التي تنكشف فيها روح الإنسان: "حين يغيب من تعوّدت أن يكون هو الضياء، يسقط وجهك من عمق مرآتك، فتفقد تجلي صورتك." الغياب إذن هو لحظة سحق لكل ما صنعناه من أمل، وكل ما صنّعناه من صداقة أو حب... بل هو لحظة نشر الحقيقة على مسرح الحياة، حين تتساقط الأقنعة الواهية، ويظهر الوجه الحقيقي لما وراء العلاقة.


ورغم أن الغياب قد يُبرر في ظروف مأساوية، إلا أن الألم الحقيقي هو في أن نكتشف أن تلك العلاقة التي كنا نرتضيها علاقة ظهرية وشكلية، لا علاقة قلب، لا علاقة تضحية. لأن الصدق في العلاقات، كما قال جبران خليل جبران: "لا تتعب روحك بمحاولة إنقاذ من لا يقدر قيمة نجاته." وأي إنقاذ أعظم من الحضور في وقت الحاجة؟


في هذا العالم الهش حيث تتشابك خيوط العلاقات، الغياب وقت الضيق يفضح السر الأعظم: أن القداسة ليست من قوتنا فقط بل من قدرة الآخر على الحضور. فإذا غاب في اللحظة الحاسمة، فلا قداسة له.


وهذا ما يجعل اللحظات العصيبة على الإنسان تقسية لا قوة، فالغائب حينما يغيب في الشدة، لا يغيب فقط بجسده، بل يغيب بكرامته، بحبّه، حتى بذاكرته في قلب من ينتظره. إنه غياب يقتل، ليس فقط اللحظة، بل ذاك الضياء الذي نحمله في علاقاتنا.


لذلك، في عالمنا هذا، يصبح تقييم العلاقات التي نحملها في القلب أسهل حين تعصف بنا المحن، حين نُترك وحيدين نستجدي الحضور ونُقابل الصمت. إن غياب الحضور في وقت الشدة يقتل قدسية الرابط، ويتركنا في عتمة القلوب، نعاني وحدنا. وأذكر هنا قولًا مأثورًا لجون ميلتون في الطرد من الفردوس: "الحقيقة أحياناً أكثر مرارة من الحلم المُكسَر."


فالغموض في حكاية الغياب وقت الشدة لا ينكشف إلا عندما تختبر الروح ذاك الانفصال عن من نثق نصادق نحب. في هذه اللحظة، لا يبقى سوى سؤال واحد صامت: هل كانت العلاقة قديسة فعلًا؟ أم أنها كانت مجرد نسمة عابرة في صحراء الحياة؟


إذن، لنُمعن النظر في العلاقات قبل أن يلغيها الغياب، فهي الأحداث التي ترسم حقيقيتها أو تدفن أوهامها إلى الأبد.

اكتب تعليق

أحدث أقدم