انهيار الأمم يبدأ من هنا: الفساد بوصفه الخطر الذي يبتلع مستقبل الشعوب
بقلم: آية محمود رزق
يُعد الفساد قوة خفية قادرة على هدم أقوى الدول دون أن تُطلق رصاصة واحدة، فهو يتسلل إلى المؤسسات في صمت، وينمو في أروقة القرار، ويتمدّد داخل الإدارات والأنظمة حتى يتحول إلى مرض عضال ينهش جسد الدولة من الداخل. وما إن يجد لنفسه موطئ قدم في مواقع النفوذ، حتى تبدأ ملامح التراجع في الظهور: قوانين تُطبّق على البعض دون البعض الآخر، موارد تُهدر بلا حساب، فرص تُمنح لغير مستحقيها، ومواطنون يفقدون ثقتهم بكل ما حولهم. إن أخطر ما في الفساد أنه لا يواجهك مباشرة، بل يطعن من الخلف، يتحرك خلف ابتسامات بريئة وقرارات تبدو في ظاهرها رسمية، بينما حقيقتها صفقات خفية ومصالح مظلمة.
ويكمن جوهر الفساد في قدرته على تحويل المؤسسات من أدوات لخدمة المجتمع إلى ساحات لتبادل النفوذ والامتيازات، فيصبح المنصب وسيلة للثراء، وتتحول المشاريع العامة إلى حقول جاذبة للنهب، وتصبح موارد الدولة مجرد غنائم تُقسّم بين أصحاب السلطة. ومع مرور الوقت، تتراكم آثار هذا السلوك حتى تتآكل القدرة على التطوير، وتتراجع جودة الخدمات، وينقلب المواطن من صاحب حق إلى ضحية يلاحق أبسط احتياجاته وسط مظاهر الظلم والبيروقراطية. فالفساد لا يسرق المال فقط، بل يسرق أيضًا الكفاءة، والعدالة، والطموح، ويحوّل الحياة اليومية إلى معركة غير متكافئة بين من يملك النفوذ ومن لا يملك إلا حاجته.
وكلما تغوّل الفساد داخل الدولة، أصبح الطريق إلى العدالة أطول وأصعب. فالمسؤول الفاسد لا يعمل وحده، بل ينسج شبكة من المصالح تحميه وتبرر له، ويجد لنفسه غطاءً سياسيًا أو إداريًا يمكّنه من الاستمرار في موقعه. هنا تبدأ الثقة العامة في التلاشي، فيشعر المواطن بأن جهده لا قيمة له، وأن القانون قد يُباع، وأن الحق قد يُهزم أمام المال. وعندما يفقد المجتمع ثقته في مؤسساته، يتراجع الانتماء، وتنخفض المشاركة، وتزداد السلبية، ويختنق الأمل. وهذا الانهيار المعنوي أخطر بكثير من الانهيار الاقتصادي، لأنه يقتل روح الأمة.
ولا يقف تأثير الفساد عند حدود المجتمع الداخلي، بل يمتد إلى صورتها عالميًا. فالدولة التي يعشش فيها الفساد تُصبح بيئة طاردة للاستثمارات، غير آمنة سياسيًا، غير مستقرة اقتصاديًا. تتقلّص ثقة الأسواق العالمية فيها، وتتزايد الديون، وتُهدر فرص التطوير، ويبدأ الاقتصاد الوطني في الترنّح. إن الفساد نقيض الاستقرار، وعدوّ التقدم، وجدار يحجب الوطن عن موقعه الحقيقي بين الأمم.
ومع ذلك، فإن مواجهة الفساد ليست مستحيلة، لكنها تحتاج إرادة صادقة تتجاوز الشعارات نحو الفعل الحقيقي. تحتاج إلى مؤسسات قوية لا تخضع للابتزاز، وقوانين تُطبق على الجميع بلا استثناء، وقضاء مستقل قادر على محاسبة أكبر مسؤول كما يحاسب أصغر موظف. تحتاج إلى إعلام حر يفضح ولا يخشى، وإلى مواطن يعرف أن صوته ووعيه أهم أسلحته في معركة النزاهة. فكلما ارتفعت تكلفة الفساد على الفاسد، انخفضت فرصته في النجاة.
إن الفساد ليس مجرد ظاهرة اقتصادية، بل معركة قيمية تحدد مصير الأجيال. من ينتصر فيها يبني وطنًا قويًا قادرًا على النهوض، ومن يخسرها يمنح الفاسدين مفاتيح المستقبل. وفي النهاية، تبقى الحقيقة واضحة: الدول التي تحارب الفساد تحفظ كرامتها وتضمن مستقبلها، والدول التي تتساهل معه تهدم نفسها بيدها، حتى لو لم تشعر بذلك إلا بعد فوات الأوان.
إرسال تعليق