كتب: باهر رجب
في خطوة تعد الأكبر من نوعها منذ سنوات، أصدر وزير العمل محمد جبران، القرار الوزاري رقم (264) لسنة 2025، بشأن تنظيم مزاولة عمليات التدريب وتطوير مستوياته. يأتي القرار، الذي نشر اليوم الأحد 28 ديسمبر 2025، في إطار استكمال حزمة القرارات التنفيذية لقانون العمل الجديد رقم (14) لسنة 2025، ويهدف إلى إحداث نقلة نوعية شاملة في منظومة التدريب المهني والتقني في مصر.
كما يهدف هذا التشريع الجديد إلى رفع كفاءة الموارد البشرية المصرية وربط مخرجات التدريب بشكل وثيق باحتياجات سوق العمل المحلية والدولية، وفقا للمعايير العالمية، في محاولة جادة لسد الفجوة بين المؤهلات المهنية والمتطلبات الفعلية للاقتصاد.
من الفوضى إلى التنظيم: إطار تشريعي متكامل
يؤسس القرار لإطار تشريعي شامل ينظم لأول مرة بشكل موحد كافة أنشطة التدريب في مصر، سواء التي تمارسها المراكز التدريبية الخاصة أو الجهات المختلفة. وينطلق القرار من رؤية تستند إلى أحكام الدستور وقانون العمل الجديد، بالإضافة إلى عدد كبير من القوانين المنظمة للتعليم الفني والاستثمار والعمل الأهلي والتأمينات الاجتماعية وحقوق ذوي الإعاقة، فضلاً عن الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها مصر.
كما أوضح الوزير أن القرار يضع "إطارا تشريعيا متكاملا" من خلال تحديد شروط وإجراءات الترخيص، وضوابط اعتماد البرامج والخطط التدريبية، وآليات ترخيص المدربين أنفسهم، بما يضمن في النهاية جودة المحتوى المقدم وكفاءة من يقدمونه، ويحمي في الوقت ذاته حقوق المتدربين من أي استغلال.
خط أحمر: الترخيص الإلزامي وشروط مزاولة النشاط
يعد الحصول على ترخيص من وزارة العمل الشرط الأساسي و الأولي لأي جهة ترغب في مزاولة نشاط التدريب، حيث يحظر القرار تنفيذ أي برامج تدريبية دون هذا الترخيص أو تنفيذ برامج غير مدرجة فيه. وقد حدد القرار شروطا دقيقة للحصول على الترخيص، منها:
شكل قانوني محدد:
اشترط على المراكز الخاصة اتخاذ شكل شركة من شركات المساهمة أو التوصية بالأسهم أو ذات المسئولية المحدودة أو شركة الشخص الواحد.
استقلال المقر:
أن يكون مقر المركز مستقلا تماما عن أي نشاط تجاري أو تعليمي آخر، و ملائما من حيث المساحة والموقع واشتراطات السلامة والصحة المهنية.
ترخيص المدربين:
عدم جواز ممارسة أي شخص للتدريب كمدرب إلا بعد حصوله على ترخيص من الوزارة، مع استثناء المدربين العاملين داخل جهات حكومية أو منشآت لتدريب موظفيها و عمالها فقط.
التدريب الإلكتروني:
إخضاع أنشطة التدريب الإلكتروني لنفس القواعد، حيث لا يجوز ممارسته إلا بعد الحصول على ترخيص خاص وسداد رسم قدره عشرة آلاف جنيه.
ومن الملفت أن القرار منح مهلة تصل إلى سنة لكافة الجهات القائمة بالفعل لتوفيق أوضاعها وفقا لهذه الأحكام الجديدة.
فصل التدريب عن التعليم: حماية للمتدرب من التضليل
في خطوة لتوحيد المفاهيم وحماية المستهلك، وضع القرار حدا للخلط والتداخل بين أنشطة التدريب المهني والتعليم الأكاديمي. حيث حظر صراحة على الجهات المرخص لها استخدام مصطلحات في أسمائها التجارية تدل على كونها كيانات تعليمية، مثل: "أكاديمية" أو "معهد" أو "كلية" أو "جامعة". كما حظر استخدام كلمات توحي بالتبعية لجهات حكومية (مثل: الوطني، القومي) أو لمنظمات دولية (مثل: الدولي، العالمي) دون إذن رسمي.
قلب الإصلاح: ربط المناهج باحتياجات السوق
يضع القرار آليات عملية لتحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل في ربط التدريب بسوق العمل. فقد ألزم المراكز باعتماد برامجها التدريبية وخططها السنوية مسبقا من الوزارة، على أن تتضمن هذه الخطط تفصيلا للمهارات المستهدفة وعدد الساعات النظرية والعملية وبيانات المدربين ومقدار الرسوم.
ولضمان تطوير هذه البرامج بشكل مستدام، نص القرار على تشكيل لجنة مركزية من الخبراء تختص بإعداد معايير اعتماد المناهج وتطويرها، بالتنسيق مع الهيئة المصرية لضمان الجودة والاعتماد في التعليم الفني ("إتقان") ومجالس المهارات القطاعية. كما منحة الوزارة صلاحية تحديد أو تشجيع برامج تدريبية معينة على المستوى القومي أو في مناطق جغرافية محددة وفقا لاحتياجات السوق.
تمكين الفئات الأولى بالرعاية: بعد اجتماعي واضح
لم يقتصر القرار على الجوانب التنظيمية والفنية فحسب، بل حمل بعدا اجتماعيا بارزا. حيث أكد وزير العمل أن القرار "يولي اهتماما خاصا بتمكين الشباب، وتعزيز المساواة بين الجنسين، ودعم التمكين الاقتصادي للمرأة". كما وجه بدمج الأشخاص ذوي الإعاقة والأقزام والفئات الأولى بالرعاية في سوق العمل من خلال منح حوافز ومزايا تشجيعية للمراكز التي تستهدف هذه الفئات في برامجها.
الرقابة والعقوبات: أسنان للتطبيق
لضمان فعالية القرار، شدد على آليات الرقابة والتفتيش الدوري على مراكز التدريب، وإنشاء قواعد بيانات دقيقة للمتدربين والمدربين. ووضع جزاءات رادعة للمخالفين تتراوح بين الإيقاف المؤقت وإلغاء الترخيص في حالات ثبوت مخالفات جسيمة مثل تقديم بيانات غير صحيحة، أو تنفيذ برامج غير معتمدة، أو استخدام أساليب احتيالية، أو تقاضي مبالغ تزيد عن الرسوم المعتمدة.
ماذا بعد؟ رؤية لمستقبل القوى العاملة
كما يؤكد وزير العمل أن هذا القرار يعد "أحد القرارات التنظيمية المحورية" التي تستهدف إصلاح وتطوير منظومة التدريب المهني في مصر. ويهدف في النهاية إلى تحقيق المواءمة بين مخرجات التدريب واحتياجات سوق العمل، ودعم التشغيل، وتحسين فرص "العمل اللائق".
مع دخول قانون العمل الجديد والقرارات المنفذة له، مثل هذا القرار، حيز التنفيذ، تبدأ مصر مرحلة جديدة في بناء رأس المال البشري، الذي يعتبر حجر الأساس لأي طموح تنموي. النجاح في هذه المرحلة سيعتمد على جدية التطبيق، وشفافية الإجراءات، وتعاون جميع الأطراف من حكومة وقطاع خاص ومجتمع مدني لتحويل هذه الرؤية التشريعية الطموحة إلى واقع ملموس يعود بالنفع على الاقتصاد الوطني و المتدرب المصري في المقام الأول.

إرسال تعليق