كتب: باهر رجب
"ضربة البداية" لحفر أول بئر ببرنامج إيني الإيطالية الجديد في خليج السويس وسيناء، خطوة عملية تحول الاتفاقيات الورقية إلى إنتاج حقيقي.
في مشهد يعكس العمل الفعلي والتحول السريع من التوقيع إلى التنفيذ، وقف المهندس كريم بدوي، وزير البترول والثروة المعدنية، على متن الحفار البحري العملاق Trident 16، يتفقد بدء أعمال حفر بئر "بلاعيم البحري 133" في خليج السويس. هذه البئر ليست مجرد بئر استكشافية عادية، بل هي الضربة الأولى لبرنامج استثماري جديد وضخم لشركة إيني الإيطالية، الأكبر استثمارًا في قطاع الطاقة المصري.
يأتي هذا الحفر كثمرة سريعة لاتفاقية التمديد التاريخية التي وقعتها الهيئة المصرية العامة للبترول مع إيني في منتصف نوفمبر الماضي، لتمديد التزام مناطق خليج السويس ودلتا النيل حتى عام 2040. البئر الجديدة، التي تستهدف الوصول إلى عمق يتجاوز 2600 متر تحت مياه الخليج، ترمز إلى بداية فصل جديد في شراكة ممتدة لأكثر من سبعة عقود، وتجسد نجاح مصر في تحويل بيئة الاستثمار إلى جاذبة وفعالة، قادرة على تحويل الالتزامات إلى إنتاج في وقت قياسي.
زيارة الوزير إلى الحفار: "ثقة وتحول إلى فعل"
في جولة عملياتية حقيقية، انتقل وزير البترول بنفسه إلى موقع العمل في البحر، حيث تابع من على ظهر الحفار البحري التابع لشركة Shelf Drilling سير عمليات الحفر لأول بئر في البرنامج الجديد.
وخلال الجولة، أكد المهندس كريم بدوي أن بدء التنفيذ الفعلي يعكس عمق ثقة الشركة الإيطالية في الاقتصاد المصري، ويلتزم بتكثيف أنشطة البحث والاستكشاف. وصرح بأن الهدف المباشر هو تعزيز القدرات الإنتاجية من البترول الخام، مما يساهم بشكل مباشر في خفض فاتورة الاستيراد وتقليل العبء على الاقتصاد الوطني.
كما استعرض فريق عمل شركة بتروبل - القائمة بالعمليات في المنطقة نيابة عن هيئة البترول وإيني - أحدث التقنيات المستخدمة لتعظيم الاستفادة من الإمكانات الواعدة في حقول خليج السويس وسيناء. وبرفقة الوزير، حضر الجولة قيادات القطاع من الجانبين المصري والإيطالي، بما فيهم المهندس صلاح عبد الكريم الرئيس التنفيذي للهيئة المصرية العامة للبترول، والمهندس فرانشيسكو جاسباري رئيس شركة إيني في مصر، مما يؤكد الأهمية الاستراتيجية لهذا المشروع لكلا الطرفين.
خلفية الشراكة: تمديد حتى 2040 واستثمار 9 مليارات دولار
لا تأتي هذه الخطوة من فراغ، بل هي تتويج لسلسلة من الإجراءات والإصلاحات الجوهرية. ففي 13 نوفمبر 2025، وقعت مصر وإيني اتفاقية تمديد التزام الشركة في منطقتي خليج السويس ودلتا النيل حتى عام 2040.
· الهدف: الاستغلال الاقتصادي الكامل للإمكانات المتاحة من البترول والغاز في هذه المنطقة الحيوية.
· الإجراءات: بموجب الاتفاقية، ستطلق إيني حملة جديدة للمسح السيزمي ثلاثي الأبعاد باستخدام تقنيات متقدمة لتحديد الموارد غير المستغلة.
· التعهدات: أعلنت إيني عن خطة لاستثمار حوالي 9 مليارات دولار على مدار السنوات الأربع المقبلة في مصر، خاصة في مناطق مثل حقل ظهر العملاق للغاز والفرص المحيطة به.
هذا التمديد ليس شكليا. فهو يرعى أحد أقدم وأعرق الحقول في مصر، حقل بلاعيم، الذي تديره إيني منذ عام 1954، ويعد أكبر حقل بترول في تاريخ البلاد، ولا يزال ينتج حوالي 60 ألف برميل يوميا حتى عام 2025. الاتفاقية، كما وصفها الوزير بدوي، "إنجاز استراتيجي يبني على أكثر من 70 عامًا من الشراكة"، ويمهد الطريق لاكتشاف المزيد من الموارد.
السياق الأوسع: مصر تعيد بناء ثقة المستثمرين العالميين
يحدث هذا التحرك في إطار جهود مصرية أوسع وأعمق لإصلاح قطاع البترول وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وفقا لتقرير مؤسسة "ريستاد إنرجي" النرويجية، فإن مصر أطلقت مؤخرا أكبر كمية من المزايدات للفرص الاستثمارية مقارنة بعدد من الدول الأخرى.
من أهم الإصلاحات التي تمت معالجتها:
· تسوية المتأخرات المالية: قامت الحكومة بسداد منتظم للمستحقات المتأخرة لشركات البترول العالمية، حيث تم سداد نحو 1.7 مليار دولار خلال عام 2025، مع خطة لسداد 750 مليون دولار إضافية بحلول نهاية الربع الأول من 2026.
· إصلاح منظومة تسعير الغاز: تم إدخال آلية تسعير تصاعدية للغاز، وهو تحول استراتيجي يبعث برسالة طمأنة للمستثمرين حول جدوى الاستثمار طويل الأجل.
· التوسع في مشروعات الطاقة المتجددة: يعمل هذا التوسع على خفض الطلب المحلي على الغاز، مما يتيح تصدير كميات أكبر ويحسن الميزان التجاري.
هذه الإصلاحات مجتمعة تخلق بيئة مواتية، تفسر لماذا تسارع شركة عملاقة مثل إيني – والتي لديها بالفعل استثمارات ضخمة في حقل ظهر للغاز ومصنع دمنهور للتسييل – إلى ضخ استثمارات جديدة وزيادة تواجدها.
الآفاق المستقبلية: بين البترول التقليدي والتحول الأخضر
التزام إيني المتجدد في مصر لا يقتصر على البترول والغاز التقليديين. فإلى جانب برامج الاستكشاف والحفر، تضع الشركة نصب عينيها مستقبل الطاقة الخضراء، في تناغم مع التوجه العالمي والمحلي.
تقييم إيني وشركاؤها الحكوميون لجدوى مشروعات إنتاج الهيدروجين الأخضر والأزرق في مصر.
لدى الشركة أيضا محطة للطاقة الشمسية بقدرة14 ميجاواط في حقل أبو رديس، وتساهم في سوق التجزئة للوقود عبر علامة "إيني".
بالإضافة إلى ذلك،تركز مؤسسة إيني على برامج المسؤولية المجتمعية في مجالات الصحة والتعليم وترشيد استهلاك المياه في مناطق مثل جنوب سيناء ومطروح.
هذا المزيج بين تعزيز إنتاج الهيدروكربونات التقليدية وبين الاستثمار في تكنولوجيا الحد من الانبعاثات ومشروعات الطاقة الجديدة، يضع شراكة مصر مع إيني في قلب التحول الاستراتيجي لقطاع الطاقة المصري، الذي يسعى ليس فقط للأمن ولكن أيضا لمكانة في الاقتصاد المنخفض الكربون.
الخاتمة
انطلاق أعمال الحفر في بئر "بلاعيم البحري 133" هو أكثر من مجرد خبر عادي في الصفحات الاقتصادية. إنه رسالة قوية للمستثمرين العالميين مفادها أن مصر جادة في ترجمة الاتفاقيات إلى مشروعات على أرض الواقع، وبسرعة قياسية. وهو تجسيد حي لشراكة استراتيجية عابرة للعقود، تتجدد اليوم بثقة أكبر واستثمارات أضخم، ليس فقط للبحث عن الذهب الأسود في أعماق خليج السويس، ولكن أيضا للمساهمة في صناعة مستقبل طاقة مصر في عصر التحول الأخضر.

إرسال تعليق