فن المسافة الآمنة: كيف تحمي قلبك الرقيق دون أن تطفئ نور بصيرتك؟ بقلم باهر رجب

فن المسافة الآمنة: كيف تحمي قلبك الرقيق دون أن تطفئ نور بصيرتك؟ بقلم باهر رجب

 



المأساة التي يعيشها صاحب "العقل الناضج والقلب الطفولي"، حيث الرؤية حادة والمشاعر غضة. ولكن، هل يحكم على هذا النبل بالاحتراق الدائم؟ أم أن هناك سبيلا لترويض هذا الصراع وتحويله من "لعنة" إلى "حصانة"؟ إن الحماية لا تعني بناء الجدران، بل تعني إتقان فن المسافات.


البصيرة كدرع لا كخنجر

أولى خطوات الحماية تبدأ من تصحيح علاقتنا بالبصيرة. غالبا ما يستخدم صاحب العقل الناضج ذكاءه في "تحليل الألم" بعد وقوعه، في حين أن الوظيفة الحقيقية للحكمة هي التنبؤ والوقاية.


عليك أن تسمح لعقلك بأن يكون "حارسا" للبوابة، لا مجرد "محقق" في الجريمة. عندما تخبرك بصيرتك أن هذا الشخص يستغلك، لا تتجاهل هذا الصوت باسم الطيبة. الحكمة هنا تقتضي أن تمنحه "عطاء مقننا" لا يستنزف جوهرك، وبذلك تكون قد أرضيت نبل قلبك دون أن تسمح بكسره.


الوعي بالاستنزاف: متى نغلق الباب؟

إن القلب الرقيق يميل لفتح الأبواب للجميع، لكن البصيرة تدرك أن بعض الضيوف لا يحترمون حرمة الدار. حماية القلب تبدأ من وضع "حدود رحيمة".


الحدود ليست قسوة، بل هي أقصى درجات الرقي الإنساني. فهي تعلم الآخرين كيف يتعاملون معك. يمكنك أن تظل صادقا، معطاء، ومتفهما، ولكن مع إضافة شرط "الاستحقاق". إن إغلاق الباب في وجه من يصر على إيذائك ليس خيانة لقلبك، بل هو قمة الإخلاص لذاتك.


تحويل "العطاء" إلى "استثمار"

المشكلة ليست في العطاء، بل في توجيهه لمن لا يقدره. لكي تحمي قلبك، توقف عن العطاء العشوائي الذي يشبه صب الماء في الغرابيل المثقوبة. استثمر عاطفتك في الأماكن التي تنبت فيها الزهور.


بصيرتك قادرة على تمييز "الأرض الخصبة"، فاجعل عطاءك واعيا. عندما تعطي وأنت تدرك أن الطرف الآخر يقدر هذا العطاء، يرتد إليك هذا الشعور بالرضا و الامتلاء، بدلا من شعور النضوب و الخذلان.


عزلة الحكيم واستراحة المحارب

يحتاج هذا المزيج البشري الفريد إلى فترات من "العزلة الواعية". بما أنك تقرأ الصمت والضجيج و تتحسس آلام الآخرين، فإن جهازك العصبي و الوجداني ينهار تحت ضغط هائل.


العزلة هنا هي غسيل للروح من العيوب و الخيبات. هي الوقت الذي يتصالح فيه عقلك مع قلبك بعيدا عن ضوضاء البشر. في هذه العزلة، يمكنك أن تسأل نفسك: "هل ما قدمته اليوم كان نابعا من قوتي أم من خوفي من فقدان الآخرين؟".


التوازن هو النجاة

إن حماية القلب لا تعني تحويله إلى حجر، بل تعني إلباسه درعا من الوعي. أن تكون حكيما يعني أن تعرف متى تنسحب، وأن تكون رقيقا يعني أن تنسحب دون ضغينة.


أنت لست مضطرا للتخلي عن طفولتك الداخلية، لكنك ملزم بحمايتها بعقل الفيلسوف الذي يسكنك. فالحياة لا ترحم من يترك قلبه عاريا تماما، ولا تحتفي بمن يغلق عقله على الظلام. النجاة تكمن في أن تمسك بالعصا من المنتصف. بصيرة ترى الحقيقة، وقلب يختار لمن يمنح نورها.

اكتب تعليق

أحدث أقدم