الاستاذ الدكتور إبراهيم محمد مرجونة يكتب... رحلة البحث عن الجمال

الاستاذ الدكتور إبراهيم محمد مرجونة يكتب... رحلة البحث عن الجمال


 


 

مقال بعنوان : رحلة البحث عن الجمال.

 ا.د إبراهيم محمد مرجونة

استاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية الآداب

جامعة دمنهور

يذهب أرسطو إلى القول بأن الإنسان زودته الطبيعة باليد أقوى الأسلحة يستطيع أن ينتج بها من الفنون المختلفة، فاليد هى الأداة التى تخلق غيرها من الأدوات وبها يصنع الإنسان ما شاء من فنون. ولكي تحقق السعادة الغائبة فقط كن جميلاً.

كن جميلاً ترَ الوجود جميلاً....البس هندامًا منسقًا في الألوان؛ لتتباهى بفخر مشيتك شريطة أن لا تكن من الخيلاء، اختر لك نسقًا منتظمًا في ترديد كلمات الأمل، لَبِّ دعوة من طلب لقياك، صافح عن طيب خاطر وبصدق كلَّ من اغرورقت عيناه حين رآك، أجب ولبِّ نداء الصدق ولا تلبِّ رغبة الجفاء المكبوتة فيك منذ أمد بعيد ، حتى تشعر بالجمال وقيمته .

ولكن متى يشعر الإنسان بالجمال؟ وما الذي يجعل أشياء تبدو جميلة في عيون بعض الناس وغير جميلة في عيون آخرين؟ الشيء هو نفسه لا يتغير، لكن زاوية النظر إليه تتغير من شخص إلى شخص.

أعتقد أن معظم الناس يتفقون على أن النظرة الخارجية ما هي إلا انعكاس للحالة النفسية الداخلية، فإذا كنت جميلا من الداخل سترى ما حولك جميلا أيضا، وإن كان داخلك متعكرا سترى ذلك العكر أيضا في ما حولك.. المعادلة سهلة إذن، وقد لخصها الشاعر إيليا أبو ماضي منذ وقت طويل في قوله (كن جميلا ترى الوجود جميلا ).

قد يكون الكلام سهلا، لكن الواقع شيء مختلف تماما عما نقوله أو نكتبه، فمن العسير أن نطالب شخصا يعيش ظروفا حياتية صعبة، بأن يتفاءل ويقبل على الحياة بالحب والأمل وغيرهما من الأحاسيس الإيجابية، في الوقت الذي لا يجد مما يحيط به إلا ما يكدر صفو روحه ويثقل على نفسه ويرهق جسده.

هذا بالفعل أمر صعب، فكل منا مشغول بنفسه وأسرته، ويسعى ليل نهار كي يوفر لهم احتياجاتهم الأساسية، ولا يفرغ من لهاثه خلف «لقمة العيش» إلا في آخر النهار منهك القوى.

إذ يجرّ حينها نفسه جرًّا كي يصل منزله، ولا وقت لديه لأن يجلس مع أبنائه.. زينة حياته الدنيا.. ولا أن يقضي وقتا مع نفسه.. لحظات تأمل.. تعبد.. مراجعة أو مساءلة للذات.. أو أي شيء يحتاج الإنسان أن يقوم به مع نفسه، ومن أجل نفسه فقط..

مثل هذه اللحظات ـ مع النفس أو مع الأشخاص المقربين في محيط العائلة أو الأصدقاء ـ مهمة جدا كي تجعل للحياة معنى، كي تجعلنا نلتفت قليلا إلى الجمال الموجود طيّ صفحات الحياة، التي تمر أيامها ولياليها من عمرنا ونحن لا نشعر ولا نستمتع بها.

السعي وراء «لقمة العيش» ليس خطأ، فلولاه لما استطاع أي شخص أن يواصل وجوده في هذه الحياة، وهو ليس أمرا مقتصرا على الفقراء، بل الجميع يسعى إلى ذلك، وربما يوجد بين الأغنياء من يسعى خلف الدرهم والدينار، بحرص أشد من حرص بعض الفقراء المعدمين..

السعي لطلب الرزق في حد ذاته أمر مشروع للجميع ولا عيب في ذلك، لكن العيب أن يصبح الحرص على جمع الدرهم فوق الدرهم هو غاية الشخص وأقصى منتهاه، إلى الدرجة التي تصرفه عن الالتفات إلى جمال الأشياء الأخرى المادية والمعنوية المحيطة به، لأنه يكون طوال الوقت مشغول البال بما جمعه كيف يحافظ عليه ويزيده، وبما سيجمعه كيف سيصل إليه ويصبح من نصيبه!

مثل هذا النموذج موجود في أي مجتمع، وفي فئاته المختلفة، من أغنياء وفقراء ومتوسطي الدخل، وليس موجودا فقط بين الفقراء الذين لا يعرفون كيف يدبرون خبز اليوم التالي.

الانشغال بجمع المال على هذا النحو المرَضي، قد يكون سببًا في أن يعيش الإنسان في هذه الدنيا ويغادرها، دون أن يدرك الأوجه المختلفة للجمال القابع في كل زاوية من زواياها.

وهو أمر مؤسف حقا، فإشراقة صباح يوم جديد هي أمر جميل يستحق أن نحمد الله عليه كل يوم، إذا أدركناها ونظرنا إليها من زاوية إيجابية جدا، وتأملنا خيرا في هذا اليوم الجديد وقدرنا أنه سيكون أفضل من اليوم الذي سبقه.

النخيل والأشجار والمساحات الخضراء المنتشرة في كل مكان حولنا، أيضا هي شكل من أشكال الجمال الذي لا يحظى كثيرون غيرنا برؤيته في كل وقت خرجوا فيه من منازلهم مهما اختلفت وجهاتهم.

ضحكات الأطفال من حولنا، سواء كانوا أبناءنا أو أبناء أقاربنا أو أبناء جيراننا أو أي أطفال نلتقي بهم بشكل دائم ونسمع أصوات ضحكاتهم وصراخهم وبكائهم حتى.. هذا جمال أيضا من نوع فريد جدا، لا يستطيع الكثيرون أن يدركوه وأن يقفوا على تفاصيله.

قَالَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:

"مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا".

لا أعرف كم هم الأشخاص الذين يتوقفون عند كل شيء حولهم ـ مهما بدا بسيطا أو روتينيا ـ ويتأملون وجه الجمال فيه، لكن الذي أرجوه هو أن يحاول أن يقوم بذلك كل واحد منا، وأقصر طريق إليه هو التحلي بصفة القناعة، لأن الإنسان القنوع سيجد كل شيء حوله كافيا، ومؤديا للغرض.

أما الذي يفتقر لصفة القناعة فإنه سيبقى دائما وأبدا يلهث في ماراثون الحياة، ولن يكفيه عمره ولا عمر آخر يُضاف إلى عمره، كي يشعر أنه وصل لما يريده أو أنه حقق كفايته من أي شيء يسعى إليه.

وسيغمض عينيه حين يرحل عن هذه الحياة، دون أن يعلم أنه كان مغمض العينين وهو حيّ، يتنفس فوق سطحها، لأنه حرم نفسه من رؤية جمالها المحيط به في كل ركن وزاوية.

يقول العم صلاح جاهين في الرباعيات:

أعرف عيون هي الجمال والحسن

وأعرف عيون تاخد القلوب بالحضن

وعيون مخيفة وقاسية ، وعيون كتير

وبنحس فيهم كلهم بالحزن

عجبي،،،،

أخيرا: نفس جميلة في جسد جميل هو المثل الأعلى للجمال. الجمال ليس خاصية في ذات الأشياء بل في العقل الذي يتأملها. الجمال برهانه فيه، أما طيب النفس فيحتاج إلى برهان. الجمال يصدم العين، أما الجدارة فتكسب الروح ،  يخطئ من يعتقد أن الجمال هو جمال الشكل والوجه، فالجمال هو الجمال الحقيقي النابع من الداخل وهو جمال الروح، والذي يعطي انطباع جيد عن كل شخصية مهما كان شكله ولونه وعرقه، فكل انسان عليه أن يتلمس في الاخر جمال الروح بدلا من الحكم بالشكل فقط .

 

 

اكتب تعليق

أحدث أقدم