رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن معركة بلاط الشهداء

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن معركة بلاط الشهداء



بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن معركة بلاط الشهداء أو (معركة بواتييه Poitiers) اسم أطلق على المعركة الفاصلة التي دارت في أوائل شهر رمضان سنة 114هـ / 10 أكتوبر عام 732 م بين الجيش الإسلامي بقيادة القائد "عبدالرحمن الغافقي"، وقوات الفرنجة (الفرنسيين) بقيادة "شارل مارتل" Charles Martel في سهل بواتييه Poitiers (بالقرب من مدينة تور على نهر اللوار وعلى مسافة 340 كم إلى الجنوب الغربي من باريس)، وتسميها المصادر الغربية معركة بواتييه Bataille de Poitiers.. وأَوقفت هذه الهزيمة تقدم المسلمين نحو فرنسا وإعاقت الجيش الإسلامي عن الامتداد فيما وراء جبال البرانس، ومن ثم إلى باقي أوروبا، ولولا هذه المعركة لدخل الإسلام أوروبا بالكامل في غضون سنوات قليلة.
تفصل جبال البرانس إسبانيا عن جنوب فرنسا، وكانت هذه المنطقة من بلاد فرنسا تسمى "بلاد الغال Gaul"، وتتألف من عدة ولايات، ويعتقد المؤرخون أن ولاة الأندلس كانت لديهم آمال بعيدة في امتداد فتوحاتهم لممالك هذه البلاد، وربما كان أول من قام بمحاولات جدية هو الوالي "السمح بن مالك الخولاني"، غير أن تلك المعارك أسفرت عن هزيمة السمح واستشهاده مع الكثير من رجاله قرب مدينة تولوز Toulouse (يوم عرفة سنة 102هـ/ 721 م)، وقد استطاع مساعده، القائد عبد الرحمن الغافقي، أن يقود فلول الباقين من الجيش الإسلامي ويرجع بهم إلى أربونة، ومن ثم إلى الأندلس.
ورغم هذه الهزيمة فإن السمح استطاع في بداية فتوحاته دخول أربونة عاصمة ولاية سبتمانية، وظلت أربونة قاعدة للفتوح والجهاد في جنوب فرنسا، ولعل قربها من البحر وسهولة تلقي المسلمين الإمدادات عن طريق الأساطيل بدلاً من عبور جبال ألبرت أو البرانس هو ما ميزها بهذه الأهمية الاستراتيجية لمعظم ولاة الأندلس الذين حاولوا فتح فرنسا.
واستمرت الغارات الإسلامية على ممالك الغال في عهد الولاة الذين خلفوا السمح على بلاد الأندلس، حيث وجدنا بعض الحملات السريعة لكل من: عنبسة بن سحيم الكلبي، وعذرة بن عبد الله الفهري، إلا أن التقدم الحقيقي في الفتوحات بجنوب فرنسا كان في عهد الولاية الثانية لعبدالرحمن الغافقي سنة 112هـ/ 730 م.
كان عبد الرحمن من الولاة الصالحين المتقين الذين تولوا الأندلس، ويعد من التابعين، ومن رواة الحديث النبوي الشريف، فقد ورد في ترجمته أنه روى عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ولهذا كان محل احترام صلحاء المسلمين، فضلًا عن جنده، لعدالته في تقسيم الغنائم، وزهده في الدنيا، وكان الغافقي من الفاتحين الذين يرون حياتهم في الجهاد، فقرر استئناف الحملات على فرنسا، وتقوية قاعدة "أربونة" الإسلامية، وقد جهز عبدالرحمن الغافقي جيشًا كبيرًا من البربر والعرب انطلق به من مدينة "بنبلونة" بضم ما يجاورها من ممالك، حيث عبر الغافقي جبال ألبرت (جبال البرانس) عبر الجبال واتجه أولًا لفتح مدينة "آرل Arles" التي توقفت عن دفع الجزية للمسلمين، فاسترجعها بعد معركة عنيفة، فلما سقطت هذه المدينة توجهت جيوش عبدالرحمن مباشرة نحو بوردو عاصمة دوقية أكيتانية، واشتبك حاكمها الدوق "أودو" مع المسلمين في معركة حاسمة بالقرب من التقاء نهري الدوردوني Dordongne والجارون Garonne، مما أدى إلى انهزامه هزيمة قاصمة، انسحب على أثرها نحو الشمال، حيث دخل المسلمون عاصمته وفرضوا سيطرتهم عليها.
تقدم المسلمون بعدها نحو اللوار يفتتحون كل ما وقع تحت أيديهم من المناطق التي تؤدي إلى مدينة تور Tours.
وقد اجتاح الغافقي في هذه الحملات السريعة الخاطفة نصف فرنسا الجنوبي كله من الغرب إلى الشرق، ووصلت جيوش المسلمين للمرة الثانية إلى أبواب باريس في غضون سبع سنوات.
ولما عجز الدوق "أودو" عن صد الجيوش الإسلامية الفاتحة، اضطر للجوء إلى القائد "شارل مارتل" حاجب ملك الدولة الميروفنجية، والذي أدرك أن الهدف القادم لجيوش المسلمين هو أراضي دول الفرنجة ذاتها، فجيش جيوش الشمال وبعث يستقدم الرجال من حدود الرين حتى تجمع له جيش ضخم يوازي جيش المسلمين.
وقد التقى الجيشان في رمضان 114هـ/ تشرين الأول 732 م، في سهل يقع شمال بواتييه، وجرت بينهما مناوشات عديدة لمدة سبعة أيام، ثم تحول القتال إلى صدام مروع، رجحت كفة المسلمين في بدايته، لكن في النهاية اشتد هجوم جيش "شارل مارتل" من الفرنجة وحلفائهم من الألمان والسكسون والسويف على جيش المسلمين، يضاف إلى ذلك، أن الفرنجة هاجموا مؤخرة الجيش الإسلامي، مما أدى إلى الإخلال بنظام الجيش الإسلامي لخوفهم على الغنائم التي كانت معهم من فتوحاتهم السابقة.
ووسط اشتداد المعركة أصاب سهم القائد "عبدالرحمن الغافقي" فخر شهيدًا في أرض المعركة، وقد أصاب هذا الأمر جيش المسلمين بالارتباك والاضطراب، ولكنهم ما لبث أن ثبتوا وقاتلوا بشراسة حتى مغيب الشمس، ثم أيقنوا بصعوبة استمرار المعركة، وانسحب كبار القادة بما تبقى من جيش المسلمين في الليل تاركين ما تبقى من خيامهم وبقايا متاعهم، راجعين إلى قاعدة المسلمين في سبتمانية وهي أربونة مرة ثانية.
وتذكر المصادر العربية هذه المعركة باسم بلاط الشهداء لكثرة من قتل من المسلمين وعلى رأسهم الغافقي ذاته، مما يفهم منه أن مكان الموقعة كان إلى جوار قصر أو حصن كبير، ربما كانت له علاقة كبيرة بحوادث المعركة.
وهذه المعركة أوقفت سيل الفتوحات الإسلامية عند جنوب فرنسا، واكتفى المسلمون بالسيطرة على شبه الجزيرة الإيبيرية، متأثرين بأثر تلك الهزيمة الشديدة التي تعرض لها الجيش الإسلامي في تلك المعركة، ولو دخل الإسلام فرنسا وباقي ممالك أوروبا ربما عجل ذلك بخروجها من العصور الوسطى واللحاق بركب الحضارة الإسلامية كما كان الحال في بلاد الأندلس وقتها.
ونجد أنه من أهم أسباب الهزيمة:
• اختلاط الجيش الإسلامي بعنصري البربر والعرب، مع ما كان بين العرب والبربر من صراع آنذاك مما أدى إلى الهزيمة لعدم التجانس.
• خوف المسلمين على الغنائم التي جمعها المسلمون أثناء زحفهم من المدن التي مروا بها قبل المعركة الفاصلة، وقد استغل شارل مارتل هذه النقطة والتف بجنوده على مؤخرة الجيش الإسلامي، مما أدى لانفراط عقدهم للجوئهم لحماية الغنائم ومنع الفرنجة من الاستيلاء عليها.
• تكتل الإمارات في غالة، واستماتتها في الدفاع والوقوف أمام المسلمين، إلى جانب تعودهم على تضاريس المنطقة التي وقعت بها المعركة، ومعرفة الفرنجة لتلك لمواقع وطبيعتها ودروبها.
وأخيرًا:
جاء في رواية الكاتب الفرنسي الشهير "أناتول فرانس": "الحياء المزهرة" على لسان البطل دوبوا قائلًا لسيدة أندرياس:
"ما هو أشأم يوم عرفته فرنسا يا سيدتي؟؟
قالت: هو اليوم الذي انهزم المسلمون فيه في معركة Poitier (بلاط الشهداء سنة 732)، ضد الفرنسيين"!!
أي أن هذه المرأة - في الرواية - كانت تتمنى أن ينتصر المسلمون في المعركة لتصل فرنسا حضارة المسلمين وتنقذهم من أحبال الظلام والرجعية التي كانوا يعيشون فيها آنذاك.
ويعلق المؤرخ الشهير "جيبون" علي معركة (بواتييه) قائلًا: "لو كان العرب قد إنتصروا في بواتييه لأصبحت المساجد في باريس ولندن بدلًا من الكاتدرائيات حاليًا، ولكان القرآن يتلي في جامعة أكسفورد وبقية الجامعات هناك".

اكتب تعليق

أحدث أقدم