د.حمدي سيد محمد محمود يكتب ......في اليوم الدولي للتفكر في الإبادة الجماعية

د.حمدي سيد محمد محمود يكتب ......في اليوم الدولي للتفكر في الإبادة الجماعية

 




في اليوم الدولي للتفكر في الإبادة الجماعية

د.حمدي سيد محمد محمود - باحث أكاديمي

E-mail : dr.hamdysayedmohamed@gmail.com

يصادف يوم  يوم 7 أبريل لهذا العام مرور 28 سنة على قتل أكثر من مليون شخص في رواندا بشكل ممنهج في أقل من 100 يوم؛ كان معظمهم من أقلية "التوتسي" بالإضافة إلى أفراد من قبيلة "الهوتو" ممن وقفوا في وجه الإبادة الجماعية، فيما يوصف بأنه "أحد أبشع الفصول المأسوية في التاريخ الإنساني"، وعلى الرغم من أن رواندا عاشت أسواء أقدارها بتلك المذبحة الرهيبة، لكن شعبها استطاع أن يُعيد الإعمار  ويغير الواقع المأساوي، وبعد أن قاست المرأة الرواندية العنف والتمييز، ها هي أصبحت الآن تشغل أكثر من 60 في المائة من المقاعد البرلمانية، مما جعل رواندا تتبوأ مقام الريادة في العالم" فيما يتعلق بحقوق المرأة.

 

ولفهم القصة  من بدايتها، يجدر بنا الرجوع إلى خلفياتها التاريخية، وفهم طبيعة الدور الذي لعبته الدول الاستعمارية في التمهيد للمذبحة، حيث ظل شعب رواندا يعيش بأمن وسلام (تعداده حاليًا 12 مليون نسمة)، إلى أن جاء الاستعمار الألماني "1885-1917"، لتحقيق أطماعه الاستعمارية، ثم جاء من بعده الاستعمار البلجيكي"1917-1962"، وثبت التقسيم العرقي في البلاد بين قبيلتي "التوتسي" التي تمثل (15% من السكان)، و"الهوتو" الذين يشكلون الأغلبية (85% من السكان)، وذلك بفرض خانة "القبيلة" على الهوية، بهدف تقسيم البلاد، وتسهيل السيطرة عليها، ونهب مواردها.. وكان هذا التقسيم العامل الرئيس في المجزرة الرهيبة التي ستقع بعد سنوات.

 

تصاعدت حدة التوتر بين القبيلتين، وبلغت ذروتها في الثورة الرواندية العام 1959؛ التي أسقطت آخر ملك رواندي، ويدعى "موتارا الثالث" وهو من "لتوتسي"، واستولى "الهوتو" على الحكم، وشرعوا في قتل أقلية "التوتسي"، ما أدى إلى نزوح مئات الآلاف منهم إلى الدول المجاورة، وبخاصة أوغندا التي ضمت معظم اللاجئين "التوتسيين"، بعد ذلك وفي منتصف الثمانينيات حدثت عدَّة حوادث عرقية، أدت إلى طرد 40 ألف لاجئ "رواندي" إلى المنطقة الحدودية، ليعيشوا هناك ظروفاً بالغة السُوء، ومن هؤلاء تشكلت نواة الجبهة الوطنية الرواندية، التي أصبحت الممثل السياسي لأقلية «التوتسي» في أوغندا، حيث سعت  لتحقيق حلمهم بالعودة إلى راوندا مرة أخرى.

 

وفي مستهل التسعينيات قام مقاتلو "التوتسي" باجتياز الحدود الرواندية "بدعم من أوغندا"، مما تسبب في اندلاع الحرب الأهلية الرواندية الثانية، والتي استمرت أربع سنوات، والتي شهدت مستويات قتل غير مسبوقة،  ولا نبالغ إذا قلنا أنها ارتقت إلى مستوى الإبادة الجماعية، إلا أنّ الحكومة الرواندية وبمساعدة من بلجيكا وفرنسا والكونغو تمكنت من صد الهجوم، إلى أن تدخلت الأمم المتحدة وفرضت على الطرفين توقيع معاهدة سلام، المعروفة باسم إتفاق أروشا للسلام والتي وُقعت في تنزانيا بتاريخ 4 أغسطس 1993، من طرف حكومة رواندا والجبهة الوطنية الرواندية التابعة بقيادة  "بول كاجامي" لتهدئه الصراع وإنهاء حالة الحرب الأهلية  في رواندا.

بيد أن الطبقة الحاكمة من "الهوتو" رفضت هذه الاتفاقية، وفي 6 أبريل 1994 وإثر سقوط طائرة الرئيس الرواندي آنذاك "جوفينال هابياريمانا" والذي ينتمي أيضُا لقبيلة "الهوتو"، بدأت عمليات الإبادة بحق جماعة التوتسي، حيث مثلت حادثة إسقاط الطائرة الحجة التي تنتظرها الميليشيات المتطرفة للبدء بالمذبحة، على الرغم من أن أسباب تلك الحادثة لا زالت مجهولة حتى الآن.

 

اتهمت الإذاعة الرواندية «لسان حال الهوتو»  أقلية "التوتسي" بقتل الرئيس، ومع التحريض المستمر، بدأت أكبر مذبحة في التاريخ الإنساني، وخلال مائة يوم فقط، أدت إلى قُتل قُرابة المليون إنسان، أغلبيتهم الساحقة من «التوتسي»، لم تستثنِ عمليات القتل المتعمدة أي أحد، حتى الذين حاولوا الفرار خارج البلاد.. قُتلوا جميعا بأبشع الوسائل، وكان هدف «الهوتو» إبادة جميع «التوتسي»، وتخليص البلاد منهم.

 

لم تتوقف حالة الإبادة الجماعية إلا بانتصار ثوار «التوتسي» بقيادة "بول كاجامي"، وذلك في  في 15 يوليو 1994، حيث مرت البلاد بفترة انتقالية من عدم الاستقرار استمرت لست سنوات، إلى أن تولى «كاجامي»  منصب رئيس رواندا  في سنة 2000، حيث قام بإعداد دستور جديد للبلاد، مهمته توحيد الشعب المنقسم، كما منع خانة «العرق» في هويات المواطنين، وجرّم استخدام كلمتي "هوتو" و» "توتسي"، ليكون انتساب المواطن لرواندا فقط، وفي نفس الوقت قام الرئيس بحملة ضد المعارضين، حيث أغلق فيها عدداً من الهيئات والصحف  التي قامت بالتحريض، كما شن حملة على الفساد، كما قام "كاجامي" كذلك بتنفيذ حملة اعتقالات لعدد من القادة السابقين لميليشيات «الهوتو»، لتقديمهم للمحكمة الدولية بتهمة الإبادة الجماعية، أما المتورطون في أعمال القتل، فقُدّموا لمحاكم شعبية ، قضت عليهم بأعمال الخدمة الاجتماعية، بهدف إعادة دمجهم بالمجتمع مرة أخرى، كما ألزمت الدولة مواطنيها تجاوز الأحقاد، وفرضت السلم الأهلي.

 

 وفي ذات السياق بدأ "كاجامي"  القيام بخطة إصلاح اقتصادي، حيث شملت هذه الإصلاحات قطاعات الصحة والتعليم والمرأة، والتي أصبحت تشكل 30% من البرلمان، وهي أعلى نسبة تمثيل للمرأة في العالم، كما نجحت خطة الإصلاح في تحقيق نهضة اقتصادية حقيقية، لتصبح رواندا المقصد السياحي الأول في إفريقيا، والبيئة المفضلة لجذب الاستثمارات، ولتحقق واحدة من أعلى معدلات النمو في العالم، بنسبة 8% سنوياً.

 

وختامًا فإن رواندا أعطت للعالم نموذجًا حقيقيًا لإمكانية البناء و النهوض بعد كل هذا الانهيار، وذلك من خلال تعلم كيفية بناء مستقبل الأمة من منطلق الاستفادة من الأخطاء السابقة؛ والتي لا تزال عالقة في الذاكرة الوطنية لشعب رواندا، ذلك الشعب الذي  حول مأساته إلى منارات تنير له مستقبله الواعد، على أنقاض هذه المجزرة البشعة بحق الإنسانية بأسرها.

اكتب تعليق

أحدث أقدم