الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف يتحدث عن التعامل مع الاّخر

الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف يتحدث عن التعامل مع الاّخر



بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن السيرة النبوية المباركة وما حملَت من مواقفَ وأحداث تعدُّ نبراسًا وضياءً للباحثين عن أي بُغية ومقصَد، والمتتبِّع لها يجد فيها العلاج لأيِّ مشكلة حياتيَّة؛ لأنَّ صاحبها هو الأسوة والقدوة، وهو الهادي إلى صراط الله المستقيم، وحين أردتُ أن أتناول موضوع البحث واخترتُ كيفية علاج مشكلة من المشاكل التى تُلقي بظلالها علينا في أيامنا هذه، وهي مشكلة "التعامل مع الآخر" من خلال السيرة النبويَّة المطهَّرة - فتَّشتُ عن بُغيتي ومَقصَدي، فوجدتُ آثارًا نافعة وثمارًا يانعة، تحمل في طِيَّاتها العلاج النافع.
لا شك أنَّ مسألة العلاقة مع الآخر تعتبر من المسائل المصيريَّة؛ خاصة أن الإنسان بطبيعته كائنٌ اجتماعيٌّ، مضطرٌّ لإقامة علاقة مع غيره من البشر، ومن الواضح أنَّ عصرنا الذي نعيش فيه يشهَد - من جانبٍ أكبرَ - تحدِّياتٍ كبيرةً بصدد هذا الموضوع.
لقد أصبحَت قضية ما يسمَّى بـ"الآخر" تشغل حيِّزًا واضحًا في الأطروحات الثقافيَّة في الآونة الأخيرة، لا سيَّما في مجال مواجهة التصور الإسلاميِّ ونقده؛ حيث تُوجَّه تهمة رئيسةٌ الآن إلى التصور والفِكر الإسلامي بأنه لا يَعترف بـ"الآخَر"، ولا يفقَه التعامل معه، بل لا يضع قضية "الآخَر" برمَّتها في الحسبان.
ويُرمى بهذه التهمة من قِبَل رموز العَلمانية على امتداد ساحة العالم العربي الفكريَّة، كما تُبنى على هذه التهمة اتهاماتٌ فرعية؛ تتعلق بدعوى ضيق الأُفق، والانغِلاق، والتعصُّب، وما شابه ذلك!
ولا شكَّ أن هذا يتطلب من المفكِّرين والباحثين من أبناء الإسلام المخلصين أن يُشيدوا أسسًا علمية، ومناهجَ معتمِدة على دراسات معمَّقة، حول موضوع العلاقة مع الآخر، وكيفيَّة الحوار معه؛ وذلك بالتصدِّي للتحدِّي المضاد من جانب، وعَرضِ الأطروحة الإسلامية التي تستجيب لتطلُّعات الإنسان نحو حياة مشرقة بنور العدل من جانب آخر.
والإسلام بمنهجه في التعامل يضع أسُسًا مفادُها أن ارتقاء الشعوب لا يكون إلا بقَبول الآخر واحترام حقوقه!
وفي بحثنا ستكون قراءةٌ حضارية معاصِرة في السيرة النبوية المشرَّفة في موضوع "منهج السيرة النبوية في التعامل مع الآخَر".
• من هو الآخَر؟
حتى يكون كلامنا منصبًّا حول موضوعنا المرادِ البحثُ فيه؛ لا بد أن نعرف أولاً من هو الآخر؟
قيل: الآخَر هو: ذلك الإنسان الذي لا يتَّفق معك بالرأي، وتختلف معه في العقيدة؛ سواء أكانت دينية، أم حزبيَّة، وله رأي وفِكر مغايرٌ، وقَناعة مختلفة.
فالآخَر هو كل مَن يقع في خارج الذات الفرديَّة (الأنا)، والذات الجَمعيَّة (نحن)، في إطار الشخصية الوطنية للجماعة أو الدولة أو الأمة.
ومن ثَم تشكَّل الآخر في الثقافة العربية الإسلامية الناجزة في جوٍّ من الحوار والتسامح، ولم يتعرَّض للإلغاء والاستئصال، وإنما نُظِر إلى صاحبه باعتباره إنسانًا مكرَّمًا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾ [الإسراء: 70].
بل إنَّ النص القرآنيَّ رفَع من مكانة المُغاير المُعادي، فساواه بالآخَر الموافِق؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 24].
وها هو ذا الإمام عليٌّ يوصي الأشتَرَ وهو ذاهبٌ إلى مصر قائلاً: "الناس صِنفان؛ فإما أخٌ لك في الدين، وإما نظيرٌ لك في الخَلق"....
• أوصاف معلِّم الأمة:
أودُّ في البداية أن أنقُل شيئًا عن صاحب هذه السيرة العطرة كما جاء في "فقه السِّيرة": "... حين سُئل هندُ بنُ أبي هالةَ عن أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فممَّا جاء في وصفه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَخزِن لسانَه إلا عما يَعنيه، يؤلِّف أصحابه ولا يفرِّقهم... كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَجلس ولا يقومُ إلا على ذِكر، ولا يوطِّنُ الأماكنَ - لا يميِّز لنفسه مكانًا - إذا انتهى إلى القومِ يجلسُ حيث يَنتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كلَّ جلسائه نصيبَه؛ حتى لا يحسِبَ جليسه أنَّ أحدًا أكرمَ عليه، مَن جالسَه أو قاوَمَه لحاجةٍ صابَره حتى يكون هو المنصرِفَ عنه، ومَن سأله حاجة لم يُرده إلا بها، أو بميسور من القول، قد وسِعَ الناسَ بَسطُه وخُلقه، فصار لهم أبًا، وصاروا عنده في الحقِّ متقاربين، يتفاضلون عنده بالتقوى، مجلسه مجلسُ حلم وحياء، وصبرٍ وأمانة، لا تُرفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحُرم - لا تُخشى فلتاتُه - يتعاطفون بالتقوى، يوقرون الكبير ويرحمون الصغير، ويَرفِدون ذا الحاجة، ويؤنِسون الغريب.
وقال يصفُ سيرته: كان دائمَ البشر، سهلَ الخُلق، ليِّن الجانب، ليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا صخَّاب ولا فحَّاش، ولا عتَّاب ولا مدَّاح، يتغافل عما لا يشتهي ولا يقنط منه، قد ترك نفسَه من ثلاث: الرِّياء، والإكثار، وما لا يَعنيه، وترك الناسَ من ثلاث: لا يذمُّ أحدًا، ولا يعيِّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يَرجو ثوابه.
إذا تكلَّم أطرق جلساؤه كأنَّما على رؤوسهم الطير، وإذا سكَت تكلَّموا، لا يتَنازعون عنده الحديث، من تَكلَّم عنده أنصَتوا له حتى يَفرُغ، حديثهم حديثُ أوَّلِهم، يَضحك مما يضحَكون منه، ويعجَب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، ويقول: ((إذا رأيتم صاحبَ الحاجة يَطلبُها فأرفِدوه))، ولا يَطلب الثناء إلا مِن مُكافئ""[1].
فعلى هذا خرجَت من بين يديه خير أمَّة أُخرجَت للناس، وبلغت الأَوج، وأدارت علاقاتها بالآخرين على العدلِ والبِر، فليس يُظلَم في جوارهم بريء، أو يحرم من إلطافهم عانٍ، وبرغم ما وقع عليها من بغي قديم، فقد كان الإسلام يَجُّبُ ما قبله.
• كان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم قائدًا للإنسانية، لا شبيهَ له في حلِّ مشاكلها ومعضلاتها؛ فإذا كان هناك بديلٌ لحل المشكلات، وهو اللجوء إلى الضغوط وإلى استخدام القوة وسَنِّ العقوبات، والطَّرد من البلاد، وحرمان الشخص من حقوق المواطَنة، وفتح أبواب السجون على مَصاريعها، وتطبيق صنوف التعذيب، وبثِّ العيون والجواسيس، وإشاعة جو من الإرهاب والفزَع بين المواطنين... وعليه فلن تستطيع حلَّ أيِّ مشكلة بهذا الأسلوب!
لكن رسولنا صلى الله عليه وسلم قام بحلِّ جميع المشكلات والمعضِلات بكلِّ سهولة ويُسر، دون أن يدخل داخلَ هذه الدائرة المفرَغة، ودون أن يستعمل الضغوط أو الإرهاب والقوة، مع أنه نشأ في مجتمع كان يُثير المشكلات لأتفهِ الأسباب، وتنشأ بينهم الخصوماتُ الدموية لأحقرِ الأمور، وتشتعل الفتن لأهونِ الأشياء[2].
• حلف الفضول.. نموذج عظيم في محاربة البغي في سياسات الأمم:
لقد وقفتُ عند حلف الفضول متأمِّلاً الجانبَ الإنسانيَّ الرائع للشرع الحنيف؛ ففي الجاهلية الغافلة نهَض بعضُ رجال من أولي الخير، وتواثقوا بينهم على إقرار العدالة وحرب المظالم، وتجديد ما اندرَس مِن هذه الفضائل في أرض الحرم!
ويُقال في سبب هذا الحلف: إنَّ رجلاً من زُبَيْد قدم مكَّة ببضاعة، واشتراها منه العاصُ بن وائل السَّهميُّ، وحبَس عنه حقَّه، فاستَعدى عليه الأحلافَ عبدَالدار ومخزومًا وجُمَحًا وسَهْمًا وعَدِيًّا، فلم يَكترِثوا له، فعَلا جبلَ أبي قُبَيْس، ونادى بأشعارٍ يصف فيها ظُلامتَه، رافعًا صوته، فمشى في ذلك الزبيرُ بن عبدالمطَّلب، وقال: ما لهذا مُترَك؟! حتى اجتمع الذين مَضى ذِكرهم في حِلف الفضول، فعقدوا الحِلف ثم قاموا إلى العاص بن وائل فانتزَعوا منه حقَّ الزُّبيدي[3].
قال ابن الأثير: "... ثم إنَّ قبائلَ مِن قريش تداعَت إلى ذلك الحلف، فتحالفوا في دار عبدالله بن جُدعان؛ لِشرَفه وسنِّه، وكانوا بني هاشم، وبني عبدالمطلب، وبني أسد بن عبدالعزَّى، وزُهرة بن كلاب، وتَيم بن مرَّة، فتَحالفوا وتعاقدوا ألاَّ يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على مَن ظلَمَه، حتى تُردَّ مَظلمتُه، فسمَّت قريشٌ ذلك الحلفَ "حلف الفضول".
وفي هذا الحلفِ قال الزبيرُ بن عبدالمطلب:
إنَّ الفضولَ تَعاقدوا وتحالَفوا
ألاَّ يُقيمَ ببطنِ مكةَ ظالمُ
أمرٌ عليه تَعاقدوا وتواثَقوا
فالجارُ والْمُعترُّ[4] فيهم سالمُ
فشهِدَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال - حين أرسله الله تعالى -: ((لقد شهدتُ مع عمومتى حلفًا في دار عبدالله بن جُدعان ما أحبُّ أنَّ لي به حُمرَ النَّعَم ولو دُعيت به في الإسلام لأجبتُ)).
وهو يعتبر من مَفاخر العرب وعِرفانهم لحقوق الإنسان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((شهدتُ حلف المطيِّبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحبُّ أنَّ لي حُمرَ النَّعَم، وأني أنكثُه))[5].
إنَّ بريق الفرح - بهذا الحلف - يَظهر في ثنايا الكلمات التى عبَّر بها رسول الله عنه؛ فإن الحميَّة ضد أي ظالم مهما عزَّ، ومع أي مظلوم مهما هان، هي روح الإسلام الآمرِ بالمعروف، الناهي عن المنكَر، والواقف عند حدود الله، ووظيفة الإسلام أن يحارب البغي في سياسات الأمم، وفي صِلات الأفراد على سواء.
فبالنظرة إلى هذا الحلف نقِفُ عند بعض الألفاظ؛ من مثل: "فتحالفوا وتعاقَدوا ألاَّ يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس، إلا قاموا معه، وكانوا على مَن ظلمه، حتى ترد مظلمته".
فليس هذا الحلف قاصرًا عليهم فقط، وإنما مَن كان منهم ومن غيرهم مِن سائر الناس؛ لذلك أيَّده صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ولو دعيت به في الإسلام لأجبت)).
فتعاقدُ المسلمين مع غيرهم على دفع ظلمٍ أو في مواجهة ظالم، ذلك جائز لهم؛ على أن تُلحظ في ذلك مصلحةُ الإسلام والمسلمين في الحاضر والمستقبل، وفي هذا الحديث دليل، والدليل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحبُّ أنَّ لي به حمرَ النَّعم))؛ لما يحقِّق من عدل، ويمنع من ظلم، أو النُّكث به مقابلَ حمر النعم، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ولو دعيت به في الإسلام لأجبت)) ما دام يردَع الظالم عن ظلمه، وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم استعدادَه للإجابة بعد الإسلام لمن ناداه بهذا الحلف[6].
• معاهدة المدينة وضعَت أعظم الأسس في المعاملة مع الآخر:
بعد أن أرسى رسولُ الله صلى الله وعليه وسلم قواعدَ مجتمع جديدٍ، وأمة إسلامية جديدة، بإقامة الوَحدة العقَديَّة والسياسيَّة والنِّظامية بين المسلمين، بدأ بتَنظيم علاقاته بغير المسلمين، وكان قصدُه بذلك توفيرَ الأمن والسلام، والسعادة والخير للبشرية جمعاء، مع تنظيم المنطقة في وفاق واحد، فسنَّ في ذلك قوانين السماح والتجاوز التي لم تُعهَد في ذلك العالم المليءِ بالتعصُّب والأغراض الفردية والعِرقية[7].
ثم وقفتُ أيضًا مع الشيخ الغزالي رحمه الله حين أفرد عنوانًا في كيفية التعامل مع الآخر بعنوان: "غير المسلمين"، وهذا حين تعرَّض لأسس البناء للمجتمع الجديد، فقال ما نصُّه: "ومن هنا شُغل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أوَّلَ مستقره بالمدينة بوضع الدعائم التي لا بد منها لقيام رسالته، وتبين معالمها في الشؤون الآتية:
1- صلة الأمة بالله.
2- صلة الأمة بعضها بالبعض الآخر.
3- صلة الأمة بالأجانب عنها، ممن لا يَدينون دينها.
فتحدَّث عن الأمر الثالث وهو صلة الأمة بالأجانب عنها الذين لا يدينون بدينها؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سنَّ في ذلك قوانين السماح والتجاوز التى لم تُعهد في عالم مليء بالتعصب والتغالي، والذي يظن أن الإسلام دينٌ لا يقبل جوار دين آخر، وأن المسلمين قوم لا يستريحون إلا إذا انفرَدوا في العالم بالبقاء والتسلُّط، هو رجل مخطئ، بل متحامل جريء!
عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجَد بها يهودَ توطَّنوا، ومشركين مستقرِّين، فلم يتجه فكرُه إلى رَسم سياسةٍ للإبعاد أو المصادَرة والخصام، بل قبل - عن طيب خاطر - وجود اليهود والوثنيَّة، وعرَض على الفريقين أن يعاهدهم معاهدةَ الندِّ للند؛ على أن لهم دينَهم وله دينَه.
وهم وإن كانوا يُبطِنون العداوة للمسلمين، لكن لم يكونوا أظهَروا أية مقاومة أو خصومة بعدُ، فعقَد معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدةً قرَّر لهم فيها النصح والخير، وترك لهم فيها مُطلَق الحرية في الدين والمال، ولم يتَّجه إلى سياسة الإبعاد أو المصادَرة والخصام.
ونحن نقتطف فقراتٍ من نصوص المعاهدة التى أبرَمها مع اليهود، دليلاً على اتجاه الإسلام في هذا الشأن؛ جاء في هذه المعاهدة:
• أن المسلمين من قريش ويثربَ ومَن تبعهم فلَحِق بهم وجاهَد معهم أمةٌ واحدة، وأن المؤمنين المتَّقين على مَن بغى منهم أو ابتغى دسيعةَ[8] ظلمٍ أو إثم أو عدوان، أو فسادٍ بين المؤمنين، وأن أيدِيَهم عليه جميعًا، ولو كان ولد أحدهم!
• وأنه لا يجير مشركٌ مالاً لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن، وأنه لا يحل لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن يَنصُر مُحدِثًا ولا يؤويَه، وأنه من نصَره أو آواه؛ فإن عليه لعنةَ الله وغضبَه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرفٌ ولا عدل.
• وأن اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأنَّ يهود بني عوف أمةٌ من المؤمنين؛ لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، وأن ليهود بني النجار والحارث وساعدة، وبني جُشم وبني الأوس... إلخ - مثلَ ما ليهود بني عوف، وأن على اليهود نفقتَهم، وعلى المسلمين نفقتَهم، وأن بينهم النصرَ على مَن حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصحَ والنصيحة والبِرَّ دون الإثم، وأنه لم يأثَمِ امرؤٌ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأن الجار كالنفس غير مُضارٍّ ولا آثم، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرِّه.
• وأن بينهم النصرَ على من دهَم يثرب، وأن مَن خرج آمِن، ومن قعد بالمدينة آمِن، إلا مَن ظلَم وأثِم، وأنَّ الله جارٌ لمن برَّ واتَّقى.
وهذه الوثيقة تنطق برغبة المسلمين في التعاون الخالص مع يهودِ المدينة؛ لنشر السَّكينة في ربوعها، والضرب على أيدي العادين ومدبِّري الفتن أيًّا كان دينهم، وقد نصَّت - بوضوح - على أن حرية الدين مكفولة؛ فليس هناك أدنى تفكيرٍ في محاربة طائفة أو إكراهِ مستضعف، بل تكاتفَتِ العبارات في هذه المعاهَدة على نُصرة المظلوم، وحماية الجار، ورعاية الحقوق الخاصَّة والعامة، واستنزل تأييدَ الله على أبرِّ ما فيها وأتقاه، كما استنزَل غضبه على من يَخون ويغش.
واتَّفق المسلمون واليهود على الدفاع عن يثربَ إذا هاجمَها عدوٌّ، وأقرت حرية الخروج من المدينة لمن يبتغي تركها، والقعودَ فيها لمن يحفَظُ حرمتها.
فاعتبَرت الصحيفةُ اليهودَ جزءًا من مُواطني الدولة الإسلامية، وعنصرًا من عناصرها؛ ولذلك قيل في الصحيفة: "وأنَّ من تبعنا من يهودَ؛ فإن له النصرَ والأسوة، غيرَ مظلومين، ولا مُتناصَرٍ عليهم"، ثم زاد هذا الحكمَ إيضاحًا بقوله: "وإن يهودَ بني عوف أمةٌ مع المؤمنين..."[9].
وبهذا نرى أنَّ الإسلام قد اعتَبر أهل الكتاب الذين يعيشون في أرجائه مُواطنين، وأنَّهم أمة مع المؤمنين، ما داموا قائمين بالواجبات المترتبة عليهم؛ فاختلاف الدِّين ليس - بمقتضى أحكام الصحيفة - سببًا للحرمانِ من مبدأ (المواطنة)[10].
ما إن وصل الرسولُ صلى الله عليه وسلم المدينة حتى نشَر بيانًا يُطلِق المتخصصون في القانون اسم "دستور رسول الله صلى الله عليه وسلم" على هذا البيان الذى أعلنه بعد وصوله إلى المدينة بوقت قصير؛ ففي هذا البيان - أو هذه المعاهدة - نرى وجودَ أسس معظم ما جاء في بيان حقوق الإنسان؛ لذا عاش اليهود مدَّة تحت جناح المسلمين بكلِّ اطمئنان وراحة وأمن، وقد أصبحَت هذه المعاهَدة أو هذا البيانُ أو الدستور - مدة طويلة - سببًا في إرساء الصلح والأمن بين المسلمين واليهود، حتى نقضَها اليهود، وكان اليهود يُراجعون الرسول صلى الله عليه وسلم ويَرضون به حكَمًا.
تناول الشيخ الغزاليُّ رحمه الله ما كان من غدرٍ لليهود مع كلِّ ما تناولَته المعاهدة من كامل الحقوق لهم، لكن دَعني أنقُل لك كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معهم؛ فيقول: "على أنَّ الإسلام يدَع أولئك الجحَدةَ في ضلالهم، فلا يستَأصِلُ كفرَهم بالسيف، ويكتفي بأن يُعلن دعوته، ويكشف حقيقته، ويَملأ الجوَّ بآياته ومعالمِه؛ فمَن استراح إليها فدخَل فيها، فبِها ونِعمَت، وإلا فهو وشأنه، ولا يطالبُه الإسلام بشيء إلا الأدب والمُسالَمة، وترْكَ الحق يسير من غير عائق أو نكير.
ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فمدَّ يده إلى اليهود مُصافحًا، وتحمَّل الأذى مسامحًا، حتى إذا رآهم مجمِعين على التنكيل به، ومحو دينه، استدار إليهم، وجرَت بينهم مِن الوقائع.
فبتقوى الله والإخلاص له دعمَت الناحية الروحيَّة في هذا المجتمع الجديد، وبالإخاء الحق، تماسَك بنيانه وتوثَّقَت أركانه، وبالعدل والمساواة، والتَّعاون، رُسِمت سياسة الأجانب، وعومل أتباع الأديان الأخرى، ومن ثَم استقرت الأوضاع ووجَد المسلمون متَّسعًا لتجديد قُواهم وترتيب شؤونهم[11].
• عمرة الحديبية وموقف مع الآخر، بدَت فيه المودة والرحمة:
دعني أنقل لك جانبًا من التعامل مع الآخر، بدَت فيه المودة والرحمة، وبلَغ فيه العطفُ منتهاهما؛ وذلك في عُمرة الحديبية؛ فقد ظلَّت حالة الحرب قائمةً بين المسلمين وبين قريش، ولم تُسفِر عن نتيجةٍ حاسمة، فكيف يَنوون العمرة في هذه الظروف؟
والجواب أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أراد بهذا النُّسك المنشود إقرارَ حق المسلمين في أداء عبادتهم، وإفهامَ المشركين أنَّ المسجد الحرام ليس مِلكًا لقبيل يحتكر القيام عليه، ويمكنه الصدُّ عنه؛ فهو ميراث الخليل إبراهيم، والحج إليه واجبٌ على كل مَن بلَغه أذانُ أبي الأنبياء مِن قرون: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 26، 27].
ومع كل ذلك كان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم يأخذ بكلِّ دواعي الحيطة لأنْ تكون هذه العُمرة بغير سوء يمَس أي طرف حتى إنَّه بعدما علم بنيَّة قريش عزمَها منع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصحبِه من زيارة البيت، مع كل ذلك يقول: ((لا تَدْعوني قريشٌ اليوم إلى خطَّة يسألوني فيها صلة الرَّحم إلا أعطيتُهم إياها)).
ثم ينقل المؤلف كيف وادَع النبيُّ صلى الله عليه وسلم خصومه، فيقول: "واستقبل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُفاوِضَ قريش، وهو أرغبُ ما يكون في موادعة القوم، وإن كان قادرًا على تحكيم السيف، وإنزال خصومه على منطقه الذي آثَروه مذ صدُّوه عن البيت، وتكلم سُهيلٌ فأطال، وعرَض الشروط التى يتم في نطاقها الصلح، ووافق عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولم يبق إلا أن تُسجَّل في وثيقة يُمضيها الفريقان.
وحدثَت في معسكر المسلمين دهشةٌ عامة للطريقة التى سلَكها رسول الله مع أوليائه ومع أعدائه؛ فأما مع أعدائه، فقد ذهَب في مُلاينَتهم إلى حدود بعيدة، وأولى به أن يَقسو عليهم! وأما مع أصحابه - فإنه على غير ما ألِفوا منه - لم يستَشِرْهم في هذا الاتفاق المقترَح، مع أنَّه في شؤون الحرب والسِّلم التى سبَقَت، كان يَرجع إليهم، وربما نزل على رأيهم وهو له كارهٌ، لكنه اليوم ينفرد بالعمل ويقرُّ ما يَكرهون، على غير ضرورةٍ ملجئة!
على أنَّ تقدير الأمور لم يُترَك للنظر المعتاد، بل كان للإلهام الأعلى توجيهُه الصائب،ونظَر المسلمون كذلك مبهورين إلى عواقب التسامح البعيد الذي أبداه النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدوا من بركاته ما ألهَج ألسنتهم بالحمد"[12]!
بل وانظر إلى النبي صلى الله وعليه وسلم وهو يحقن دماء أفراد من الطَّرَف الآخر مِن أعتى شبابهم وأشدِّهم بأسًا؛ لما رأي شبابُ قريش الطائشون، الطامحون إلى الحرب رغبةَ زعمائهم في الصلح فكَّروا في خطة تحول بينهم وبين الصلح، فقرَّروا أن يخرجوا ليلاً، ويتسللوا إلى معسكر المسلمين، ويُحدِثوا أحداثًا تُشعل نار الحرب، وفعلاً قد قاموا بتنفيذ هذا القرار! فقد خرج سبعون أو ثمانون منهم ليلاً فهبَطوا من جبل التَّنعيم، وحاولوا التسلل إلى معسكر المسلمين، غير أنَّ محمد بن مَسلَمة قائدَ الحرس اعتقَلهم جميعًا.
ورغبةً في الصلح أطلق سراحَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم، وفي ذلك أنزل الله: ﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [الفتح: 24].
• وهذا الموقف الرائع ليُبدي لك كيف تكون المعامَلة وكيف يكون الوفاء:
المسلمون المعذَّبون في مكة، فرَّ منهم أبو بَصير عُبَيد بن أَسيدٍ، وهاجر إلى المدينةِ يَبغي المُقام فيها مع المسلمين، فأرسلَت قريشٌ وراءه اثنَين من رجالها يرجعان به إليها؛ تنفيذًا لنصوص المعاهدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا بَصير، إنَّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمتَ، ولا يصلُح لنا في دينِنا الغدرُ! وإنَّ الله جاعلٌ لك ولِمَن معَك من المستضعفين فرَجًا ومخرجًا، فانطلِق إلى قومك))، وحزن أبو بَصير وقال: يا رسول الله، أتردُّني إلى المشركين لِيَفتنوني في ديني؟! فلم يَزِد النبيُّ على تَكرار رجائه في الفرَجِ القريب.
• الفتح الأعظم رحمة وتواضع:
إبَّان الفتح الأعظم بلغَت الرحمة والتَّواضع مع أهل قريش ممن ناصَبوه العَداء وأخرجوه وأخرجوا صحبَه الكرامَ مبلغًا عظيمًا؛ حيث أصبحَت "أمُّ القرى" وقد قيَّد الرعبُ حركاتها، واسترخَت تجاه القدَر المنساق إليها، فاختفى الرجال وراء الأبواب الموصَدة، أو اجتمعوا في المسجد الحرام يَرقُبون وهم واجمون، على حينِ كان الجيش الزاحف يتقدَّم، ورسولُ الله على ناقته، تتوِّج هامتَه عمامةٌ دسماء[13]، ورأسه خَفيض من شدة التخشُّع لله، لقد انحنى على رَحله، وبدا عليه التواضع الجمُّ حتى كاد عُثنونُه[14] يمَسُّ واسطة الرَّحل! إنَّ الموكب الفخم المَهيب الذي يَنساب به حثيثًا إلى جوف الحرم، والفيلق الدارع الذي يحفُّ به ينتظر إشارةً منه فلا يبقى بمكَّة شيءٌ آمِن.
إن هذا الفتح المبين ليُذكِّره بماضٍ طويلِ الفصول؛ كيف خرج مُطارَدًا؟ وكيف يعود اليوم منصورًا مؤيَّدًا؟! وأيُّ كرامة عُظمى حفَّه الله بها في هذا الصباح الميمون! وكلما استشعَر هذه النَّعماء ازداد لله على راحلته خشوعًا وانحناء، ويبدو أنَّ هناك عواطفَ أخرى كانت تَجيش في بعض الصدور.
• بل إنَّه لما يسمع كلمة من بعض أصحابه فيذكر ما كان من أهل مكة وما فرَّطوا في جنب الله، ثم شعَر بزمام القوة في يده، فصاح: "اليومَ يومُ الملحمَة، اليوم تُستحَلُّ الحُرمة، اليوم أذلَّ الله قريشًا"! وبلغَت هذه الكلمةُ مَسامع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: ((بل اليومَ يومٌ تُعظَّم فيه الكعبة، اليوم يوم أعزَّ الله فيه قريشًا))، وأمر أن يُنزَع اللواءُ من سعدٍ ويُدفَع إلى ابنِه؛ مَخافةَ أن تكون لسَعدٍ صولةٌ في الناس.
يقول صاحب "النور الخالد": "فكيف كانت معاملتُه لأهل مكة بعد كلِّ هذا التاريخ المملوء عداوة وبغضًا؟! لقد قال لهم: ((اذهبوا فأنتُم الطُّلَقاء))! ويدخل مكَّة على مركبه والدرعُ على صدره، والمِغفَر على رأسه، والسيف في يده، والنبال على ظهره، ولكنه مع كلِّ مظاهر لباس الحرب هذه كان أنموذجًا للشفقة والرحمة؛ سأل أهلَ مكة: ((ما تظنون أنِّي فاعلٌ بكم؟)) فأجابوه: خيرًا؛ أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، فقال لهم ما قاله يوسفُ عليه السلام لإخوته: ﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 92].
ثم يَنقُل رحمه الله كيف كان حالُه مع المخالفين من المنافقين، فيقول ما نصُّه: "كان رحمةً للمنافقين أيضًا؛ فبسبب رحمته الواسعة لم يرَ المنافقون العذاب في الحياة الدنيا؛ فقد حضروا إلى المسجد واختلَطوا بالمسلمين، واستفادوا من كل الحقوق التى تمتَّع بها المسلمون، ولم يَقُم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضحِهم وإفشاء أسرار نِفاقهم أبدًا، مع أنه كان يَعرِف دخائلَ نفوسِهم ونفاقَهم، حتى إنه أخبر حُذيفةَ رضي الله عنه بذلك!
ومع ذلك كله فلم يَهتك الإسلامُ سرَّهم، فبَقوا بين المؤمنين، ولم يُحرَموا من لذائذ الدنيا! ومَن هذا المنطلق كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رحمةً لهم بهذا المعنى[15].
• قمة الملاينة والرأفة في التعامل مع الآخر:
وفي هذا المعنى أيضًا تكلم الشيخ الغزاليُّ في كتابه، فقال: "وانظر أيضًا إلى قمة المُلايَنة والرأفة حتى في التعامل مع المتظاهرين بالإسلام، وهم أشدُّ خطرَا على دين الله مِن غيرهم".
مع ذلك يَنقُل المؤلف مسلَك النبي معَهم فيقول:
"سلَك النبي صلى الله عليه وسلم مع الذين يتَظاهرون بالإسلام طريق الملاينة والإغضاء، يَقبل منهم أعذارهم - وهي مختلفة - ويتكرَّم عن فضحِهم وهم يتفلَّتون من قُيود السمع والطاعة، فإذا تلبَّس أحدهم بخيانة تَهدر دمَه رغب في التجاوز عنه؛ حتَّى لا يُقال: إنَّ محمدًا يقتل أصحابه، وما هم في صُحبته من شيء، ولكن هكذا سيَقول الناس.
ولو أنَّ هؤلاء المنافقين كانوا على قليلٍ من الخير، لأسَرَهم هذا الحِلمُ، وانخلَعوا مِن خداعهم الصغير وأقبَلوا على الإسلام طيِّبين خالصين، بيدَ أن هذا الأسلوبَ العالي في معاملتهم لم يَزدهم على الله ورسوله إلا جُرأةً، فزاد افتياتُهم، وربَت شرورُهم، ولم يبق بُدٌّ من كشف خبثهم، وإشعار جمهور الأمة بما تَنطوي عليه نفوسهم وأعمالهم".
• ينقل الشيخ الغزالي رحمه الله ما يدل على روعة هذا الدين في التعامل مع المخالفين، حتى ولو كانوا وثنيِّين، فيقول: "وقد منح الإسلامُ الوثنيةَ أول الأمر حقَّ الحياة، وترك مَن يرتد عنه يرجع إليها إذا شاء، ولم يفعل ذلك إعزازًا لها، إنما هو حُسن ظنٍّ بعقل الإنسان وضميرِه؛ فقلَّ مَن يسفِّهون أنفسَهم ويتركون الله العظيم، إلى صورةٍ من حجَر أو خشب أو طعام! فلما تبيَّن أن الوثنيين يستخفُّون بكل شيء، وأنهم يستغلُّون الحقَّ الممنوح لهم في الفتنة والعدوان والقتل، لم يبقَ لتركهم من حِكمة".
وعن اليهود المخالفين يقول: "أما أهل الكتاب؛ فإن قلَّةً منهم شرحَت صدرًا بالحق، وسارعَت إلى اعتناقه ومؤازرته، والكثرة الباقية اختلفَت عدواتها له شدة وفتورًا؛ أبى اليهودُ إلا إبادةَ الإسلام، فوقَعوا في شرور نيتهم، وباد سُلطانُهم العسكريُّ والسياسي، قبل أن يُدرِكوا هذه الغاية، وقَبلهم الإسلام في دولته القائمة أفرادًا يبقَون على ديانتهم ما أحَبُّوا، ولا يمكَّنون من تجمُّع على عدوان ودسٍّ؛ وذلك حقُّه لا ريب! ولم تُصادَر الحقوق الشخصيَّة ليهوديٍّ تحت سلطان الإسلام، وحسبك أن النبيَّ نفسه - لكي يقتَرض من يهوديٍّ - ارتهنَه درعَه! وما فكَّر قطُّ في إحراجه بما يملك من سلطان بعيد".
وهنا يقول صاحب "النور الخالد": "أُهدي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مفتاحَ الحلم، ففتَح به قلوبًا كثيرة وتربَّع فيها، فلولا حِلمُه هذا لصَدمَت الخشونة الكثير من النفوس التي لا تملك مرونة، وجعلَتهم في صفوف أعداء الإسلام، ولابتَعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن حلمه صلى الله عليه وسلم حال دون هذا، فأقبل الناس أفواجًا إلى الإسلام، فكانت من رحمة الله الواسعة أن جعَله ليِّن الطبع إلى درجة أنَّ الأيدي التى امتدَّت بالأذى إليه والتي توقعَت ردَّ فعل عنيفًا لم تجد عنده سوى اللين والعطف".
ثم يقول: "وعلى الرغم من كلِّ هذا فقد بقيَت هناك قلوبٌ صمَّاء لا تسمع ولا تعقل ولا تلين، وكان أصحاب هذه القلوب الميتة يتصرَّفون بخشونة وصفاقة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يتَسامح مع هؤلاء ويتصرَّف معهم بالحِلم واللِّين فلا يبقى هناك تصرف خشن إلا ويَذوب في بحر حِلمه؛ لأنه لم يأت لاستِعمال الشدة بين الناس، ولا لتشتيت المجتمع؛ بل جاء مِن أجل تأمين سعادة الدنيا والآخرة للناس أجمعين"[16].
• وهناك موقف مع النصارى يدل أيضًا على السماحة الرائعة من القائد العظيم، فينقل الشيخ الغزالي هذا الموقفَ مع نصارى نجران حين أجرى النبيُّ صلى الله عليه وسلم معهم صلحًا، فيقول: "وجاء في شروط هذا الصلح: أنَّ لنصارى نجران جوارَ الله وذمةَ محمد النبي، على أنفسهم وملَّتهم وأرضهم وأموالِهم، وغائبهم وشاهدِهم، وعشيرتهم وتبعهم، وألَّا يغيروا مما كانوا عليه، ولا يغير حقٌّ من حقوقهم ولا ملَّتهم، ولا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وليس عليهم ريبةٌ ولا دمُ جاهلية، ولا يُحشَرون - يُكلَّفون بجهاد - ولا يُعشَرون - يُكلَّفون بزكاة - ولا يطَأ أرضَهم جيشٌ، ومَن سأل منهم حقًّا فبينهم النَّصَف غير ظالمين ولا مظلومين، ومن أكل ربًا فذمَّتي منه بريئة، ولا يُؤخذ رجل منهم بظلم آخر، وعلى ما في هذه الصحيفة جوارُ الله وذمة محمد رسولِ الله حتى يأتي الله بأمره ما نصَحوا وأصلحوا فيما عليهم غير منقلِبين بظلم"؛ فقه السيرة.
• خطبة الوداع والمبادئ العامة في التعامل:
ثم ها هو صلى الله عليه وسلم يُنشئ المبادئ العامَّة لأمَّته بل وللعالم أجمعَ في نصوص خُطبة الوداع؛ حيث انتهز فرصة هذا التجمُّع الكبير ليقولَ كلماتٍ تُبدِّد آخرَ ما أبقَت الجاهلية من مخلَّفات في النفوس، وتؤكِّد ما يحرص الإسلامُ على إشاعته من آدابٍ وعلائقَ وأحكام؛ خاصة وأنت ترى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينادي مَن حوله بلفظ: ((أيُّها الناس))، ومما جاء فيها: ((أيُّها الناس، إنَّ دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ إلى أن تلقَوا ربَّكم، كحُرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقَون ربَّكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلَّغت، أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقًّا، ولهن عليكم حقًّا؛ لكم عليهن ألا يوطِئنَ فرُشَكم أحدًا تكرَهونه، وعليهن ألا يأتينَ بفاحشة مبيِّنة، فإن فعَلن؛ فإنَّ الله قد أذِنَ لكم أن تهجُروهن في المضاجع، وتَضربوهن ضربًا غيرَ مبرِّح؛ فإن انتهَين، فلهنَّ رِزقُهن وكسوتُهن بالمعروف، واستَوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنَّهن عندَكم عوانٍ، لا يَملكن لأنفُسِهن شيئًا، وإنَّكم إنما أخذتُموهن بأمانة الله، واستحلَلتم فروجَهن بكلمة الله، فاعقِلوا أيها الناسُ قَولى؛ فإني قد بلَّغت.
أيُّها الناس، اسمعوا قولي واعقِلوه تعلمن، إنَّ كل مسلم أخٌ للمسلم، وإنَّ المسلمين إخوة، فلا يحلُّ لامرئ مِن أخيه إلا ما أعطاه عن طيبِ نفسٍ منه، فلا تَظلِمُن أنفسكم)).
ولا أجد شيئًا أختم به كلامي أفضلَ من هذه الفقرة التى تُريك كيف كان التعامل مع الآخر، حين نرى الجانب العملي الرائع؛ فيقول صاحب "النور الخالد": "لقد عَدَّ صلى الله عليه وسلم نفسه على الدوام فردًا من الأفراد، ولم يميِّز نفسه عن غيره، وكان يمثل في نفسه تمثيلاً جيدًا حكمةَ: "كُن عند الناس فردًا من الناس"، أجَل؛ إذ لا يَنبغي على الإنسان أن يغترَّ بمقامه أو منصبِه، فيَنسى نفسه؛ فكلُّ الناس بشَر، والمناصب لا تغيِّر الناس، ولا تجعل منهم مخلوقاتٍ أخرى! فعلى الإنسان في كل حال من الأحوال ألاَّ ينسى أنه فردٌ من الأفراد.
ثم ذكَر هذا المقطع الاجتماعيَّ من النظام الإسلامي حين وقَف الإمام عليٌّ رضي الله عنه أمام القاضي شٌريح ليُحاكم أمام خصمه الذمِّي الذي شكاه، فـأشار القاضي شريحٌ لعليٍّ بالجلوس، فقَطب عليٌّ رضي الله عنه حاجبَيه ولم يَقبَل ذلك؛ لأنه لم يرضَ أن يجلس وخَصمُه واقفٌ، فهذا ليس مِن العدالة في رأيه، وتصوروا أنَّ عليًّا رضي الله عنه كان خليفةَ المسلمين آنذاك!
فصلوات ربي وتسليماته على من ربَّى هؤلاء على العدلِ والسَّماحة والرحمة، حتى مع المخالفين[17].ا هـ
________________________________________
[1] راجع فقه السيرة؛ الشيخ محمد الغزالي - ط/ دار الريان.
[2] راجع النور الخالد، محمد صلى الله عليه وسلم، مفخرة الإنسانية؛ محمد فتح الله كولن - دار النيل مؤسسة الرسالة.
[3] راجع الرحيق المختوم؛ للمباركفوري - ط. دار ابن رجب.
[4] المعتر: الزائر من غير البلاد.
[5] راجع السيرة النبوية في ضوء القران والسنة؛ لأبي شهبة - ط. دار القلم - دمشق.
[6] راجع السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث؛ د. علي الصلابي - ط. دار المعرفة - بيروت.
[7] الرحيق المختوم؛ للمباركفوري.
[8] الدَّسيعة هي ما يخرج من حلق البعير إذا رغا، فاستعاره هنا للعطيَّة، وأراد به هنا ما يَنال منهم من ظلم.
[9] فقه السيرة؛ مرجع سابق.
[10] السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث - مرجع سابق.
[11] فقه السيرة - مرجع سابق.
[12] فقه السيرة - مرجع سابق.
[13] الدَّسماء: التي يَضرب لونها إلى السواد.
[14] العثنون: اللِّحية أو ما فضَل منها بعد العارضين.
[15] الرحيق المختوم - للمباركفوري.
[16] فقه السيرة - مرجع سابق.
[17] النور الخالد - محمد صلى الله عليه وسلم - مفخرة الإنسانية - مرجع سابق.

اكتب تعليق

أحدث أقدم