رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن جامع الزيتونة بالجمهورية التونسية

رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن جامع الزيتونة بالجمهورية التونسية



بقلم \ المفكرالعربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
لأهلِ تونس الكرام في مسجدهم العتيق «جامع الزيتونة» إجلالٌ وإعظام، عَبر عنه المؤرخون والأدباءُ بأفصح ما لديهم من العبارات والتراكيب؛ فهو الجامع الذي إذا ما بدا لك تَبَلج نُورُه، وأيْقَنْتَ أنه الجامع الـمُفْرَد، والـمُفْرَدُ الجامع، على حد تعبير بعضهم.
التاريخُ المعماري لجامع الزيتونة
هو ثاني الجوامع التي رُفعت بإفريقية بعد جامع عقبة بن نافع بالقيروان، وقد أُسس سنة 110هـ (728م)، وقيل: سنة 116هـ (734م)، على يد عبيدالله بن الحبْحاب، والي هشام بن عبد الملك على إفريقية، وقيل: على يد حسان بن النعمان الغسانِي فاتح تونس وقرطاجنة.
أما تسميتُه بالزيتونة فقيل: لأنه بُنِي في موضعٍ كان مشجرًا بالزياتين، قُطعت كلها ولم تبْقَ منها غير زيتونةٍ واحدة، سُمي بها الجامع.
وقد قام أمراء الدول المتعاقبة على تونس ( التغلبية والصنهاجية والحفصية والعثمانية ...) بتوسعة الجامع وتحسين هندسته وزخرفته وترميم ما تداعى منه بحكم الزمن.
سماع كتب الحديث وروايتها
يمتاز جامع الزيتونة عن غيره من مساجد تونس الخضراء بجملةٍ من الخصائص، منها أنه من أقْدمِها وأجلها، وهو رمزٌ لرسوخ المذهب المالكي منذ القدم، إذ حَمَله إليه سيدي علي بن زياد راوي «الموطأ»، ولاشك أن قيام الإمام سحنون بن عبدالسلام التنوخي بمهام القضاء في تونس قد عزز وجود المذهب.
وقد عَرَف الجامع حلقات روايةِ الحديث النبوي، والعنايةِ بذلك جيلًا فجيلًا، وتبدأ مجالس الحديث غالبًا في الأحد الثاني من شهر رجب، وتستمر إلى اليوم الثاني أو الثالث والعشرين من رمضان من دون انقطاع، وتنعقد حِصص الرواية في أربعة أيامٍ من كل أسبوع، أما الموكب الرسمي للختْم فيقع عشيةَ اليوم السادس والعشرين من رمضان، وأكثر ما اعْتُنِيَ به من كتب الحديث بعد موطأ الإمام مالك ، صحيحا البخاري ومسلم وكتاب «الشفا في التعريف بحقوق المصطفى» للقاضي عياض.
التعليم
اشتهر الجامع منذ القدم بدوره في بث العلم الشرعي، لكنه لم يستقل بذلك؛ فقد كانت الدروس العلمية تُلْقى وتُلقن بالجوامع والمساجد الأخرى وفي الزوايا وبيوت العلماء، وإلقاء درْسٍ معين إما أن يكون باقتراحٍ من الشيخ المدرس، أو بطَلَبٍ من تلاميذه، وإذا ما بدأ الدرس في كتاب مُقرر لا ينقطع منه، ولا ينتقل منه إلى غيره إلا بعد ختْمه، وقد كان لا يتقدم للتدريس وينتصبُ له إلا مَن أذِن له شيوخه في ذلك، وهم في العادة لا يأذنون إلا لمن رأوْا فيه كفاءةً عاليةً وأمانةً تامةً وصلاحًا بيِّنًا، ولم يكن المدرس يتقاضى على تعليمه أجرًا من السلطة، ولكنه كان يعْتاشُ في الغالب من كسْب يده، فبعض علماء الزيتونة كان يحترف بيع الزهور أو الدباغة وغيرهما، وقد انْبنَى على هذا استقلالُهم التام عن أصحاب النفوذ السياسي؛ فلم تكن لهم أيةُ سلطةٍ عليهم، بخلافِ مَن تَقَلد منهم خُطةً شرعيةً بحيث يتقاضى عليها جِرايةً، ولذلك كان الكثير من العلماء يبتعد عن هذه الوظائف الرسمية، حتى لا يرتبط بالدولة، فتَتَقيدَ حريتُه، ويثقُل كاهلُه بما لا يتدين به أمام الله سبحانه وتعالى.
ولم يكن المقصود الأصلي من الدراسة في الزيتونة تحصيلَ الشهادات لتكون وسيلةً للارتزاق، وإنما كان لتحصيل العلم ورفع الجهل، وهذا لا ينفي أن كثيرًا مِن الوظائف كانتْ متوقفةً على مَن تتوافر فيه هذه الكفاءات العلميةُ.
علوم الجامع الأعظم
العلوم أو الفنون التي تدرس بالجامع الأعظم يمكن تبويبُها حسب الاصطلاح إلى علوم نقلية وأخرى عقلية، ومن أهمها: علم التفسير، والتوحيد، والمصطلح، والفقه، والحديث، والقراءات والتجويد، وأصول الفقه، والفرائض، والتصوف، والنحو، والصرف، واللغة والأدب، والمعاني والبيان، والسير والتاريخ، والعَروض، والميقات، وآداب البحث، والهندسة، والمساحة، والرسم والخط، والمنطق، والحساب، والهيئة.
مراحل التعليم بالجامع
كان التعليمُ الابتدائي يتلقاه الطفل المسلمُ في الكتاتيب، وهي مَحِلاتٌ خاصةٌ بالبيوت، أو بجوامعِ الأحياء المتفرقة هنا وهناك، ويَتلقى فيها الأطفالُ على وجه اللزُوم حفظَ القرآن الكريم أولًا بتمامِهِ وكمالِهِ، ثم إتقانَ مبادئ اللغة العربية نحوًا وصرفًا وبلاغةً، وحفْظَ بعض المتون الأصلية والمساعِدة التي تُهيئ صاحبَها لاقتحامِ دروسِ الجامع الأعظم.
مُقررات العلوم الـمُدَرَّسة بالزيتونة
كانت العُلُوم المُدرَّسة في الجامع مِن خلال كُتُب رُتبت على ثلاث درجاتٍ باعتبار أهميتها وصعوبتها؛ فمثلًا في المرتبة العالية في التفسير يُقرأ «أسرار التنـزيل للبيضاوي» و«تفسير الجلالين»، وفي الحديث يقرأ «الموطأ» بشرح الزرقاني، و«صحيح البخاري» بشرح القسطلانِي، وفي أصول الفقه «التوضيح» لصدر الشريعة، و«العضد على ابن الحاجب»، وفي الفقه «مختصر خليل» بشروحه، و«التبيين» بشرح الكنز في الفقه الحنفي.
وفي المرتبة الوسطى، في علم الحديث «شرح اللقاني على الأربعين النووية»، وفي القراءات «نظم الشاطبية» بشرح ابن القاصح، وفي المصطلح «ألفية العراقي» مع شرْحها، وفي الفرائض «السراجية» وشرحها، وفي الصرف «لامية الأفعال» وشرحها.
وفي المرتبة الأخيرة، في القراءات والتجويد «متن الجزرية»، وفي العقيدة «الجوهرة» و«صغرى الصغرى»، وفي الفقه الحنفي «متـن الكنـز» و«متن القُُدُوري»، وفي الفقه المالكي «الرسالة » مع شرحها، و«متن ابن عاشر» بشرح ميارة عليه.
الشهادات العلمية
سُلمُ الشهادات في الزيتونة على النحو التالي:
أولًا شهادة الأهلية: ويحصل عليها التلميذ إثر المرحلة الابتدائية.
ثانيًا شهادة التحصيل في العلوم والقراءات: وينالُها الطالبُ عند انتهاء المرحلة الثانوية.
ثالثًا شهادة العالمية: وهي على ثلاثة أنواع، شهادةٌ في العلوم الشرعية، وأخرى في الآداب، وثالثةٌ في علوم القراءات.
إصلاح التعليم بالزيتونة
عانى الجامع- كغيره من الجامعات الإسلامية- ضعْفًا في بعض أدْواره وأوقاته، فقام الشيخ المجدد محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله بحملته الإصلاحية التي شَمِلت زيادةَ عددِ الفروع الزيتونية داخلَ وخارجَ تونس، كما عمل لتحسين ظروف معيشةِ طُلاب «الزيتونة» وأساتذته، وأحْدَث مناصِبَ تدريسيةً خاصةً بعلوم الرياضيات والطبيعيات والتاريخ والجغرافيا والفلسفة، وانتَخب لها أساتذتها بطرق علمية دقيقةٍ، وبهذه الإجراءات الإصلاحية الجريئةِ وغيرِها تَمَكن الزيْتُونيون مِن استكمال عُدتهم الثقافية بالجمْع بين دراسة الحضارة العربية الإسلامية وبين الدراسة العصرية.
خزائن الكتب بالجامع
قبل أن نَخْتم حديثنا عن جامع الزيتونة بصفته معهدًا عظيمًا من معاهد العلم يَجْدُر بنا أن نتعرض إلى ما أَنْجَزَ في ميدان المكتبات، وهو كالآتي:
المكتبة الأحمدية: وقد أسسها أحمد باشا باي في «1256هـ»، وتحتوي على 2696 مجلدًا.
المكتبة الصادقية: وتُعْرف أيضًا بـ «العبْدلية»، وأسسها محمد الصادق باشا باي سنة «1292هـ».
إسهام التعليم الزيتونِي في الثقافة التونسية
كان للجامع دورٌ عظيمٌ في تثبيتِ العقيدة الإسلامية، وبث علوم الشريعة والآداب العربية، كما كانتْ له إسهاماتٌ مبارَكةٌ في إشعاعِ الحضارة الإسلامية على تونس وأرجاءِ البلاد التي قَدِم منها طُلاب الزيتونة، ولقد خَرج الزيتونة نحاريرَ الفقهاء من أمثال الشيخ سالم بوحاجب، والشيخ محمد الطاهر النيفر، ومحمد النجار، ومحمد العزيز جعيط، وغيرهم من أئمة المذهب المالكي، ومن علماء الحنفية الكبار أحمد حميدة بن الخوجة، وأحمد كريم.
كما أهدى جامعُ الزيتونة لتونس المبارَكة ولعمومِ الأمة المسلِمة عالِمَ القَرْن ومجددَ العلم وشيخَ المتأخرين محمد الطاهر بن عاشور الذي حوى علوم الشريعة معقولًا ومنقولًا، وكان ثَرّ المادة، فسيحَ النظر، واسعَ المحفوظ، جليلَ الفهم، صائبَ الفكْر، وهو بلا ريبٍ أزْخرُ الزيتونيين إنتاج ًا في علوم الشرع وعلوم العربية.

اكتب تعليق

أحدث أقدم