رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن ثواب الشهيد

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن ثواب الشهيد



بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الرئيس التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا
مما لاشك فيه أن الله تعالى أنعم على الشهداء فأكرمهم واصطفاهم خير اصطفاء، وقال: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ ﴾ [آل عمران: 169]، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء وإمام الحنفاء محمد بن عبدالله وآله وأصحابه النجباء، وبعد:
1- تشويق النفوس للجهاد في سبيل الله:
أحبتي في الله:
أصبَح الجيل المسلم اليوم لا يفكر في الشهادة، لا يفكر في أعظم صورة من صور التكريم الإلهي للإنسان، ولو ناقشت ابنك - أيها المسلم - في كل مكان عن الشهادة وسألته: مَن هو الشهيد؟ وما له عند الله؟ وما هم الشهداء في أمة محمد صلى الله عليه وسلم لما عرف الجواب؛ لأنها قضية قد غابت وتلاشت في حسِّ الجيل المسلم، وصارت همومه صغيرة، وحين خرج عمير بن أبي وقاص أخو سعد رضي الله عنهما بإعادة المُجاهدين الصغار إلى المدينة يَستسخرهم للفتوحات الإسلامية الكبرى بكى عمير، قيل ما يبكيه قال: أخوه سعد والله يا رسول الله ما خرج من المدينة للقافلة، إنما خرج من المدينة يريد الشهادة في سبيل الله، فلا تحرمه الشهادة في سبيل الله يا رسول الله، فلما سمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أكبر عنده هذا الشعور العظيم الإيماني الكبير فأذن له على صِغَر سنة ونحافة جسمه؛ حيث إن سعدًا يقول: أخذت أربط حمائل سيفه على بطنه فلا تقواه فتنزل؛ لأنه كان نحيفًا يجرُّ سيفه خلفه، وله همة عظيمة أعلى من قمم الجبال ولا يطيقها أعظم الرجال، إنه لم يذق من شهوة الدنيا شيئًا، لا يزال طفلاً صغيرًا يَخرج إلى مسافة بعيدة، إلى الأقطار يريد الشهادة؛ لأنه سمع الله وسمع رسوله يحدثه عن الشهادة ومنازل الشهداء، وما عند الله للشهيد، فكان من أوائل الشهداء في غزوة بدر رضي الله عنه ورحمه، وجدير بأبنائنا أن يحفظوا اسمه وأن يكون لهم قدوة وأسوة.
إن بلوغ الأهداف الكبرى في الحياة يَستلزم تضحيات كبرى مكافئة لها، ولا ريب أن سموَّ الأهداف وشرف المقاصد ونُبْل الغايات تَقتضي سمو التضحيات وشرفها ورقيَّ منازلها، وإذا كان أشرف التضحيات وأسماها هو ما كان ابتغاء رضوان الله تعالى ورجاء الحظوة بالنعيم المقيم في جنات النعيم فإن الذود عن حياض هذا الدين والذب عن حوزته والمُنافَحة عن كتابه وشرعه ومقدساته يتبوأ أرفع درجات هذا الرضوان، ثم إن للتضحيات ألوانًا كثيرة ودروبًا متعدِّدة، لكن تأتي في الذروة منها التضحية بالنفس، وبذل الروح رخيصة في سبيل الله لدَحرِ أعداء الله ونصر دين الله، وذلك هو المراد لمُصطَلح الشهادة والاستشهاد.
إن الشهادة في سبيل الله درجة عالية لا يَهبُها الله إلا لمن يَستحقُّها، فهي اختيار من العلي الأعلى للصفوة من البشر ليَعيشوا مع الملأ الأعلى، ﴿ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ﴾ [آل عمران: 140]، إنها اصطفاء وانتقاء للأفذاذ من البشر ليكونوا في صحبة الأنبياء ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69].
2- الشهادة أعظم مراتب ذِكر الله:
قال الإمام الغزالي رحمه الله في "الإحياء":
قال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ [آل عمران: 169، 170] الآية.
لأجل شرف ذكر الله - عز وجل - عظمت رتبة الشهادة؛ لأن المطلوب الخاتمة، ونعني بالخاتمة وداع الدنيا والقدوم على الله والقلب مُستغرِق بالله - عز وجل - منقطع العلائق عن غيره، فإن قدر عبد على أن يجعل همَّه مُستغرقًا بالله - عز وجل - فلا يقدر على أن يَموت على تلك الحالة إلا في صفِّ القتال.
فإنه قطع الطمع عن مهجته وأهله وماله وولده، بل من الدنيا كلها فإنه يُريدها لحَياته وقد هون على قلبه حياته في حب الله - عز وجل - ونيل مرضاته، فلا تجرُّد لله أعظم من ذلك، ولذلك عظم أمر الشهادة وورد فيه من الفضائل ما لا يُحصى.
3- لماذا سمي الشهيد شهيدًا؟
يقول الإمام النووي - رحمه الله -: "وأما سبب تسميته شهيدًا فقال النضر بن شميل: لأنه حي؛ فإن أرواحهم شهدَت وحضرت دار السلام وأرواح غيرهم إنما تَشهدها يوم القيامة.
وقال ابن الأنباري: إن الله تعالى وملائكته عليهم الصلاة والسلام يشهدون له بالجنة.
وقيل: لأنه شهد عند خروج روحه ما أعده الله تعالى له من الثواب والكرامة.
وقيل: لأن ملائكة الرحمة يشهدونه فيأخذون روحه.
وقيل: لأنه شهد له بالإيمان وخاتمة الخير بظاهر حاله.
وقيل: لأن عليه شاهدًا بكونه شهيدًا، وهو الدم.
وقيل: لأنه ممن يشهد على الأمم يوم القيامة بإبلاغ الرسل الرسالة إليهم، وعلى هذا القول يشاركهم غيرهم في هذا الوصف".
4- مَن هو الشهيد؟
وقد أوضحت السنة أن الشهداء لهم تعريف خاص، تتبَّعنا هذه التعريفات للشهداء فوجدنا أولها: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله))؛ مَن اعتنق الحق، وأخلص له، وضحى في سبيله، وبذل دمه ليروي شجرة الحق به فهذا شهيد.
شهيد آخر: هو الذي يأبى الدنية، ويَرفض المذلة والهوان، فإن الله - سبحانه وتعالى - جعل العزة للمؤمنين، فإذا حاول أحد أن يستذلَّك فدافِع، إذا حاول أحد أن يجتاح حقك فقاوم، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: ((فلا تعطه مالَكَ)) قال: أرأيتَ إن قاتلني؟ قال: ((قاتِلْه))، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: ((فأنت شهيد))، قال: أرأيت إن قتلتُه؟ قال: ((هو في النار)).
وجاء في السنن أيضًا: ((مَن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد))، فالمسلم ينبغي أن يتشبث بحقوقه، وأن يدافع عنها، وألا يجعل الدنية صفة له، بل ينبغي أن يُحافظ على حقه الأدبي والمادي.
يلحق بالشهداء أيضًا من مات حرَقًا، مَن مات غرَقًا، مَن مات مبطونًا، من مات مطعونًا، عدد من المصاير الفاجعة التي تُصيب الناس، والأصل في هذا ما جاء في الحديث الشريف: ((ما يُصيب المسلم من نصَبٍ، ولا وصَبٍ، ولا همٍّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يُشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه))، فإذا مات مؤمن في حادث من هذه الحوادث المُحزنة المتعبة فهو يلحق عند الله بالشهداء.
نُحيِّي شهداءنا الأبرار، الذين يَحرصون على وحدة أمتهم، وكرامة بلدهم، وصون مجتمعهم، نعم:
فالله كرَّمه وأعلى شأنه
وله الخلود بجنة الرضوان
إن الشهيد مقامه في أوجها
كالنَّجم يَسمو فوق كل مكان
حيٌّ، وكل الناس في أجداثهم
فالرُّوح في الرَّوضات والأفنان
5- أما فضل الشهادة والترغيب فيها فشيء آخر، وهو أعظم وأجلُّ:
عن مسروق قال: سألنا عبدالله عن هذه الآية ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169] قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: ((أرواحُهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرَح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطَّلع إليهم ربهم اطِّلاعةً فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شِئنا؟! ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتَل في سبيلك مرةً، أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُركوا))؛ رواه مسلم، والترمذي وقال: حسن صحيح، وابن ماجه، والطبراني، وغيرهم.
وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾ [محمد: 4 - 6]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴾ [النساء: 69، 70]، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ما أحد يدخل الجنة يحب أن يَرجِع إلى الدنيا، وإن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد؛ فإنه يتمنَّى أن يرجع إلى الدنيا، فيُقتل عشر مرات؛ لما يرى من الكرامة))؛ متَّفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتَل، ثم أغزو فأُقتَل، ثم أغزو فأقتل))؛ متفق عليه.
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين))؛ رواه مسلم.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت الليلة رجلين أتياني فصَعِدا بي الشجرة فأدخلاني دارًا هي أحسن وأفضل، لم أر قط أحسن منها، قالا لي: أما هذه فدار الشهداء))؛ رواه البخاري.
عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول ثلة تدخل الجنة الفقراء المهاجرون، الذين تُتَّقى بهم المكاره، إذا أُمِروا سمعوا وأطاعوا، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تُقضَ له حتى يموت وهي في صدره، وإن الله تعالى يدعو يوم القيامة الجنة، فتأتي بزخرفها وريِّها، فيقول: أين عبادي الذين قاتلوا في سبيل الله، وقتلوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي؟ ادخلوا الجنة، فيدخلونها بغير حساب ولا عذاب، فتأتي الملائكة، فيقولون: ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار، ونقدس لك من هؤلاء الذين آثَرتهم علينا؟ فيقول الرب - تبارك وتعالى -: هؤلاء الذين قاتلوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي، فتدخل عليهم الملائكة من كل باب سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار))؛ رواه الحاكم -واللفظ له - وقال: حديث صحيح الإسناد، ولم يُخرجاه، ووافقه الذهبي، ورواه أحمد، والطبري، والبيهقي في الشعب، وغيرهم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضْر، تعلق من ثمر الجنة، أو شجر الجنة))؛ رواه الترمذي وصحَّحه، وتعلق: أي ترعى من أعالي شجر الجنة.
يقول ابن النحاس في كتابه "مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق" (ص: 270) مبينًا الحكمة في جعل أرواح الشهداء في أجساد الطيور ذات اللون الأخضر والقناديل المعلقة في ظل العرش: "لأن ألطف الألوان اللون الأخضر، وألطف الجمادات الشفافة الزجاج، ولهذا جعل أرواح الشهداء في ألطف الأجساد وهو الطير، واختار ألطف الألوان وهو الأخضر، ويأوي ذلك الطير الأخضر إلى ألطف الجمادات وهي القناديل المنورة المفرحة في ظل العرش؛ لتكمل لها لذة النعيم في جوار الرب الكريم".
وعنه رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يجد الشهيد من مسِّ القتل؛ إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة))؛ رواه الترمذي وصحَّحه.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته))؛ رواه أبو داود وصحَّحه ابن حبان.
ثم يُبيِّن الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم أن للشهيد عند الله ستَّ خصال؛ ((يُغفَر له عند أول دفعة من دمه، ويرى مكانه في الجنة، ويأمن الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما عليها، ويُزوَّج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويَشفع في سبعين من أهله))؛ رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الشيخ الألباني؛ عن المقدام بن معدي كرب.
وحديث آخر رواه البخاري: ((يعطى الشهيد ست خصال؛ عند أول قطرة من دمه تُكفَّر عنه خطاياه، ويرى مقعده من الجنة، ويُزوَّج من الحور العين، ويؤمن من الفزع الأكبر، ومِن عذاب القبر، ثم يقول صلى الله عليه وسلم: ويُحلى حلة الإيمان)).
ويوقى الشهيد من فتنة شديدة الكرب، عظيمة البلاء، ألا وهي فتنة القبر - أعاذنا الله منها - ولكن ما السبب أن يُعفى منها، ويستريح من بلائها؟! لنتفكر في قول النبي صلى الله عليه وسلم يبين لرجل سأله فقال: ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: ((كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنةً))؛ رواه النسائي.
ودم الشهيد يجفُّ، لكن قبل أن يجفَّ يكون الله قد أنعم عليه ووهبه من فضله زوجتيه من الحور العين! رزقنا الله الشهادة في سبيله؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ذُكر الشهيد عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا تجف الأرض من دم الشهيد حتى يبتدره زوجتاه، كأنهما ظئران أظلتا أو أضلتا فصيليهما ببراح من الأرض، بيد كل واحدة منهما حلة خير من الدنيا وما فيها))؛ رواه أحمد الحديث ضعفه الشيخ الألباني والشيخ شعيب الأرنؤوط، والعلامة أحمد شاكر .
ويُكرم الشهيد غاية الإكرام حينما يكون من أول مَن يدخل جنة النعيم، النعيم الدائم الذي لا يزول؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم أول ثلاثة يدخلون الجنة؛ الشهيد، وعبدٌ أدَّى حق الله وحق مواليه، وفقير عفيف مُتعفِّف))؛ رواه أحمد، وضعَّفه الشيخ شعيب الأرنؤوط، والعلامة أحمد شاكر.
ولتسمع - أيها المحزون على الشهداء - ماذا أعدَّ الله لهم من جوائز؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم عنها: ((يُعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه؛ يُكفَّر عنه كل خطيئة، ويَرى مقعده من الجنة، ويُزوَّج من الحور العين، ويؤمَّن مِن الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر، ويُحلى حلة الإيمان))؛ رواه أحمد.
وإذا قتل الشهيد لم يَنقطِع عمله الصالح بل يَزيد ويتضاعَف، فعند الترمذي عن رسول الله صلى اللله عليه وسلم أنه قال: ((كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطًا في سبيل الله، فإنه يُنمى له عمله إلى يوم القيامة، ويُأمَّن من فتنة القبر)).
من فضائل الشهادة: أن منهم مَن ينال الفضل العظيم وإن لم يركع لله ركعةً واحدة، أحد الصحابة عمرو بن أقيش كان له رِبًا في الجاهلية فمات، فلمَّا مات جاء سعد بن معاذ قال لأخته: سليه أقاتَلَ حميةً أم عصبية؟ فقال: بل لله - جل وعلا.
وقصة أخ لسلَمة بن الأكوع في خيبر قاتل بشدة فارتد عليه سيفه، فتكلم الصحابة فيه؛ لأن سيفه ارتد عليه هل يعتبر شهيدًا؟ هل مات شهيدًا في سبيل الله؟ فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كذبوا، مات جاهدًا مجاهدًا فله أجره مرتين))؛ متفق عليه.
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقَّفون تلك المنح والعطايا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيَتسابقون إلى ميدان الجهاد، ويتسابقون إلى الشهادة في سبيل الله، ففي معركة بدر وحين التقى المسلمون بالمشركين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض))، فقال: عمير بن الحمام الأنصاري يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض، قال: "نعم"، قال بخ بخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يَحمِلُك على قولك: بخ بخ؟)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءةَ أن أكون من أهلها! قال: ((فإنك من أهلها)) فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: "لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل"؛رواه مسلم (5024).
بل إن من جاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم حين يَسمع عن الجنة، وأنها تحت ظلال السيوف يسرع نحو العدو مقاتلاً في سبيل الله، فعن أبي بكر بن عبدالله بن قيس عن أبيه قال: سمعت أبي وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف"، فقام رجل رثُّ الهيئة، فقال: يا أبا موسى آنتَ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال: نعم، قال: فرجَع إلى أصحابه، فقال: "أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه، فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرَب به حتى قتل"؛ رواه مسلم (5025).
عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً أسْوَدَ أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني رجل أسوَدُ، مُنتِن الريح، قبيح الوجه، لا مال لي، فإن أنا قاتلت هؤلاء حتى أقتل، فأين أنا؟ قال: في الجنة، فقاتل حتى قتل، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد بيَّض الله وجهك، وطيب ريحك، وأكثر مالك، وقال لهذا أو لغيره: لقد رأيتُ زوجته من الحور العين، نازعته جبةً له من صوف، تَدخُل بينه وبين جبته))؛ رواه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يُخرجاه، وقال الذهبي: على شرط مسلم، وصحَّحه أيضًا في (تاريخ الإسلام: 2/419)، ورواه البيهقي في (دلائل النبوة 4/303)، وصحَّحه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
فعلينا أن نجتهد ونُخلص في طلب الشهادة حتى يعطينا الله - عز وجل - أجرها؛ عن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن سأل الله الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه))؛ رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
قال تقي الدين السبكي: "والذي نعتقده أن الله يعطيه مرتبة الشهداء لقصده وسؤاله وعدم تمكنه من الوصول إليها" اهـ.
ولذلك قال الشهيد وهو يحلق في السماء:
لا تحزَنوا يا إخوتي
إني شَهيد المِحنةِ
وكرامتي بشَهادتي
هي فرحتي ومسرَّتي
ولئن صرعتُ فذا دمي
يوم القيامة آيتي
الريح منه عاطر
واللون لون الوردةِ
آجالنا محدودة
ولقاؤنا في الجنةِ
ولقاؤنا بحبيبنا
بمحمَّد والصُّحبةِ
وسلاحنا إيماننا
وحياتنا في عزَّةِ
6- نماذج مِن الشهداء:
الشهداء الذين ذهبوا إلى الله - على اختلاف أماكنهم ودرجاتهم - لهم نماذج في التاريخ القديم والحديث، وما أحوج الأمة الإسلامية إلى هذه النماذج! ما أحوجها أن تعرف من رجالها الكبار! ومَن أبطالها الذين تأخذ منهم الأسوة! ذلك لأن أعداء الإسلام ما طمعوا فيه، ولا نالوا منه، ولا تجرؤوا عليه، إلا لأن أمتنا ثشبَّثت بالحياة على الأرض، وأخلدت إلى الهوى والشهوة، وقاتلت على الحُطام الفاني، ونافسَت فيما لا وزن له عند الله.
يقول التاريخ: إن الدولة الفارسية برغم أنها هزمت في "القادسية" وسقطت عاصمتها بقيت تقاوم مقاومة عنيدة حتى خُشي على بقاء الإسلام هناك، فدخل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه المسجد، وتفرَّس في الصفوف؛ ليَختار قائدًا من المصلين يَبعث به إلى "فارس" فنظر فإذا "النعمان بن مقرن" رضي الله عنه يُصلي، فذهب إليه وقال له: يا نعمان، أريد أن أستعملك في عمل، فقال له النعمان: إن كان جابيًا فلا - أي: إن كنت تريد أن تبعثني لأجيء بمال فلا - فقال له: بل بعثتك لتقود جبهة المسلمين في فارس، فقال: نعم.
وذهب النعمان ليقود المعركة الحاسمة في "فارس"، المعركة التي أجهزت على النفوذ الفارسي تمامًا، وأخمدت أنفاسه إلى الأبد، وتُسمَّى المعركة في التاريخ معركة "نهاوند"، الرجل قبْل أن يَهجم قال للمسلمين: إني هازٌّ لوائي ثلاثا، وإني داع فأمنوا، ودعا فقال: اللهم ارزق المسلمين نصرًا، وارزقني فيه الشهادة!
الحقيقة أني تأملت في المعركة واستغربت؛ يقول المؤرخون: إن المعركة بلغ من ضراوتها وكثرة ما سُفك من دم فيها أن الخيل كانت تنزلق على الصخر من كثرة ما سفك من دم، وقاد النعمان بن مقرن المعركة، وأصيب بجرح قاتلٍ وسقطَ، ولكنه سقط حيًّا، وقاد المعركة رجل آخر من المسلمين، وانتصر المسلمون، وجاء البشير إلى النعمان وهو جريح يقول له: انتهت المعركة، قال: على من الدائرة؟ قال: على أعداء الله، فحمد الله، ومات!
انظر إلى الرجل القائد - خرِّيج المسجد - الراكع الساجد، الرجل الذي أَبى أن يذهب في منصب يَنتظر أن يغنم منه شيئًا، أو يفيد منه خيرًا، واشترط على الخليفة عمر - أول ما حدثه - ألا يذهب في منصب من هذه المناصب، ثم لما دعا - ناس كثيرون قد يفكرون في أن يعودوا إلى بلدهم ليجنوا ثمرة النصر الذي أحرزوه، تلتفُّ حولهم الجماهير، يهتفون لهم، يُهنِّئونهم، يضعون الألقاب وراء أسمائهم، النعمان احتقر هذا كله - طلبَ النصر للمسلمين، والشهادة للنعمان!
إن الشهيد لما بذل حياته لله أعطاه الله سبحانه حياة أكمل منها عنده في محل قربه وكرامته: ((من بذل شيئًا لله أعطاه الله خيرًا منه))، حياة غير الشهيد شوب النغص ممزوج بالغصص، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيرًا، وإن سرَّت يومًا أحزنت شهورًا، أولها مخاوف، وآخرها متالف، أما الشهيد فقتْل آخره حياة، ولكن أي حياة؟! غير الشهيد يَحيا مع من؟! والشهيد يَحيا عند مَن؟! فارق أهل الدنيا الذين يَموتون، فمن الله عليه بالحياة عند الحي الذي لا يموت، لما مزَّقت أجسادهم في دار الدنيا لله - عز وجل - فمنَّ الله عليهم بحواصل طير خضر، حبست أقدامهم عن السعي فمَنَّ الله عليهم بأن يَسرحوا في الجنة حيث شاؤوا.
نظر وتأمُّل: لما ترك المجاهد الفراش والأزواج جاد عليه الملك الوهاب بكثرة الأزواج من الحور العين والجزاء عند الله من جنس العمل، فاز بوصال مَن خُلقت من النور، ونشأت في ظلال القصور مع الولدان والحور، في دار النعيم والسرور، والله لا يجفُّ دم الشهيد حتى تلقاه، وتستمتِع بشهود نورها عيناه، حوراء عيناء، جميلة حسناء، بكر عذراء، كأنها الياقوت لم يطمثها إنس قبله ولا جان، كلامها رخيم، وقدها قويم، وشعرها بهيم، وقدرها عظيم، وجفنها فاتر، وحسنها باهر، وجمالها زاهر، ودلالها ظاهر، كحيل طرفها، جميل ظرفها، عذب نطقها، عجب خلقها، حسن خلقها، زاهية الحُليِّ، بهية الحلل، كثيرة الوداد، عديمة الملل، قد قصرت طرفها عليك، فلم تنظر سواك، وتحبَّبت إليك بما وافق هواك، لو برَز ظفرها لطمس بدر التمام، ولو ظهر سُوارها ليلاً لم يبقَ في الكون ظلام، ولو بدا معصمها لسَبى كل الأنام، ولو اطَّلعت بين السماء والأرض لملأ ريحًا ما بينهما، كلما نظرتَ إليها ازدادت في عينيك حسنًا، وكلما جالستها زادت إلى ذلك الحسن حسنًا، أيجمل بعاقل أن يسمع بهذه ويقعُد عن وصالها، كيف وله في الجنة من الحور العين أمثال أمثالها؟!
يا للشهيد كأنه ملِكٌ
دُنياه شامخة وأُخراهُ
لله درُّ أبيه مِن بطل
كالكوكب الدرِّيِّ تَلقاهُ
مِسكُ الجنان يفوح من دمه
والبدر يَسطع مِن مُحياهُ
في الأرض ندفنه وفي قمم ال
فردوس عند الله محياهُ
ليلاه حوراء الجنان إذا
كل امرئ شغفَتْهُ ليلاهُ
هذا الشهيد ألستَ تعرفه
العزُّ بين يديه والجاهُ
العزُّ في كنف العزيز ومَن
عبَدَ العبيد أذله اللهُ
ولا بأس - - بأن نقول: فلان شهيد ما لم يعلم بوجود مانع من ذلك؛ قال الإمام البخاري - رحمه الله - : "باب لا يقول: فلان شهيد"، والظاهر أن هذا محمول على القطع بمآله في الآخرة ونَيله فيها درجة الشهداء، ولهذا أردفه بقوله: "قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((الله أعلم بمَن يُجاهد في سبيله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله)) اهـ، قال السندي: "قوله: "باب لا يقول: فلان شهيد" أي: بالنظر إلى أحوال الآخرة، وأما بالنظر إلى أحكام الدنيا فلا بأس، وإلا يشكل إجراء أحكام الدنيا، والله تعالى أعلم" اهـ.
اللهم إليك يا من بيده أزمة القلوب نرغب في ثباتها، وعليك يا علام الغيوب نعتمد في تصحيح قصدها وإخلاص نياتها، وإلى غناك نمد أيدي الفاقة أن ترزقنا شهادة ترضاها، وأن تنيل نفوسنا من ثبات الأقدام في سبيلك، فالحراك والسكون إليك، والمعول في كل خير عليك، وأنت على كل شيء قدير،

اكتب تعليق

أحدث أقدم