رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن سورة الحجرات

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن سورة الحجرات



بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الرئيس التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية بإسبانيا،
الرئيس التنفيذي للأكاديمية الملكية للأمم المتحدة
سورة الحجرات سورة جليلة تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة ومن حقائق الوجود الإنساني، حقائق تفتح للقلب وللعقل آفاقاً عالية وآماداً بعيدة، وتثير في النفس والذهن خواطر عميقة ومعاني كبيرة، وتشتمل من مناهج التكوين والتنظيم وقواعد التربية والتهذيب ومبادئ التشريع والتوجيه ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها مئات المرات. وهذه المعاني تشترك بها بقية سور القرآن فلماذا سورة الحجرات دون غيرها؟ وقد أجيب على هذا السؤال فقيل: " تبرز أي هذه السورة أمام النظر أمرين عظيمين للتدبر والتفكر: وأول ما يبرز للنظر عند مطالعة السورة هو أنها تكاد تستقل بوضع معالم كاملة لعالم رفيع كريم نظيف سليم متضمنة القواعد والأصول والمبادئ والمناهج التي يقوم عليها هذا العالم، والأمر الثاني: هو هذا الجهد الضخم الثابت المطرد الذي تمثله توجيهات القرآن الكريم والتربية النبوية الحكيمة لإنشاء وتربية تلك الجماعة المسلمة، هذه الجماعة المثالية التي تمثلت حقيقة واقعة في فترة من فترات التاريخ لم تنبت فجأة ولم توجد مصادفة "[1].
سورة الحجرات سميت في جميع المصاحف وكتب السنة والتفسير سورة الحجرات وليس لها اسم غيره ووجه تسميتها أنه ذكر فيها لفظ الحجرات، ونزلت في قصة نداء بني تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته فعرفت بهذه الإضافة، وهي مدنية باتفاق المفسرين، وحكى السيوطي في الإتقان قولاً شاذاً أنها مكية ولا يعرف قائل هذا القول. وهناك عدة روايات لأسباب نزول هذه السورة حيث أن بعض الآيات ورد فيها أكثر من سبب من أسباب النزول بعضها صحيح والآخر ضعيف، وأصح الروايات في نزول قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [2]، أنها نزلت في أبي بكر وعمر في قصة بني تميم كما في رواية البخاري عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما عند النبي حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس، وأشار الآخر برجل آخر فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك فارتفعت أصواتهما، فأنزل الله هذه الآية[3]، وهناك أسباب أخرى سنتطرق لواحدة منها في سياق كلامنا بإذن الله تعالى.
أغراض هذه السورة يقول عنها ابن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير): " تتعلق أغراضها بحوادث جدت متقاربة كانت سببا لنزول ما فيها من أحكام وآداب وأولها تعليم المسلمين بعض ما يجب عليهم من الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم في معاملته وخطابه وندائه دعا إلى تعليمهم إياها ما ارتكبه وفد بني تميم من جفاء الأعراب لما نادوا الرسول من بيوته، ووجوب صدق المسلمين فيما يخبرون به والتثبت في نقل الخبر مطلقا وأن ذلك خلق المؤمنين ومجانبة أخلاق الكافرين والفاسقين "[4].
ولست بصدد تفسير هذه السورة، ولكن سأقف معها وقفتين نتلمس فيها الدروس والعبر:
الدرس الأول:
مع قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [5]، هذه الآية افتتحت بنداء المؤمنين للتنبيه على أهمية ما يرد بعد ذلك النداء لتترقبه أسماعهم بشوق، ورد في الأثر: إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فارعها سمعك فإنما هو أمر تؤمر به أو نهي تنهى عنه. ووصفهم بالذين آمنوا جاء مجرى اللقب لهم مع ما يؤذن به أصله من أهليتهم لتلقي هذا النهي بالامتثال ولهذا جاء بصيغة الفعل الماضي الدال على تأصل الفعل في النفس وتمكنه منها، مع التأكيد على أن النفس مجبولة على سماع من يمدحها بما فيها.
ولقد وردت أقوال عن السلف في تفسير هذه الآية: قال ابن عباس رضي الله عنهما كما روى عنه الطبري: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، وقال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله بشيء حتى يقضيه الله على لسانه. وقال الضحاك: لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم[6]. قال الطبري موضحاً هذه المعاني: " لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم قبل أن يقضي الله لكم ورسوله فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله "[7]. قال ابن العربي المالكي: " هذه الآية أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وإيجاب اتباعه والاقتداء به ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه: مروا أبا بكر فليصل بالناس. فقالت عائشة لحفصة: قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء فمر علياً - وفي رواية لمسلم فمر عمر - فليصل بالناس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس. يعني بقوله: صواحب يوسف الفتنة بالرد عن الجائز إلى غير الجائز "[8].
وصور التقدم بين يدي الله كثيرة، منها:
1) التقدم بالكلام كما نقلنا كلام ابن عباس، وقال قتادة: ذكر لنا أن ناساً كانوا يقولون: لو أنزل في كذا لو وضع كذا وكذا وهذا من القول وهو باللسان.
2) ومنها التقدم بالفعل: كما قال سفيان: لا تقضوا أمراً دون رسول الله بقول أو فعل.
3) التحاكم إلى غير شرع الله تعالى: والأدلة في هذا كثيرة، منها ما تقدم معنا من أقوال السلف، ومنها دلالة الآية نفسها، ومنها قوله تعالى: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [9]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فالحكم لله وحده ورسلُه يبلغون عنه، فحكمهم حكمه، وأمرهم أمره، وطاعتهم طاعته، فما حكم به الرسول وأمرهم به وشرعه من الدين وجب على جميع الخلائق اتباعه وطاعته؛ فإن ذلك هو حكم الله على خلقه "[10]، وقال الشنقيطي: " والمعنى لا تتقدموا أمام الله ورسوله فتقولوا في شيء بغير علم ولا إذن من الله، وهذه الآية الكريمة فيها التصريح بالنهي عن التقديم بين يدي الله ورسوله، ويدخل في ذلك دخولاً تشريع ما لم يأذن به الله، وتحريم ما لم يحرمه، وتحليل ما لم يحلله؛ لأنه حرام إلا ما حرمه الله، ولا حلال إلا ما أحله الله، ولا دين إلا ما شرعه الله "[11].
ومفهوم الآية يدل على وجوب تقديم أمر الله وأمر رسوله، وإنما يكون ذلك بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله، وهذا من الأصول التي اتفق سلف هذه الأمة، وهي أعظم نعمة أنعم الله بها عليهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن لا برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجده؛ فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم "[12].
ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية من هذه الأمة بين أنها التي قدمت قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم فقال كما في حديث أبي هريرة رضي الله عن عند أصحاب السنن: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة "[13]، وفي رواية أخرى: " كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة "[14]، وفي رواية أخرى مفسرة: " ما أنا عليه وأصحابي "[15].
وهذا يبرز الصفات التي اتصفت بها هذه الفرقة وهذه الطائفة، وأبرزها[16]:
الاستجابة الكاملة للوحي وعدم التقديم بين يديه، فالعلم والفقه الصحيح الكامل في العقائد والشرائع والآداب وغيرها لا يكون إلا عن طريق الوحي المنزل قرآناً وسنة مع التزام الدليل الشرعي بحيث لا يكون للمسلم أمام الدليل أو النص تردد ولا شك ولا اختيار.
ولهذا بين الله سبحانه لنا الأصناف الثلاثة في موقفها من الوحي وكيف كان انتفاعها به:
فأما الصنف الأول: فهم الذين لم يقبلوا قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وهم الكفار فهؤلاء لا انتفاع لهم بالوحي بالكلية، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [17].
والصنف الثاني: هم الذين انتفعوا بالوحي انتفاعاً جزئياً فهم من جملة المسلمين ولكنهم قدموا أقوالهم وآرائهم على قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم اتبعوا المتشابه، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ [18].
وقد اختلف المفسرون في المحكم والمتشابه على معاني متعددة[19]: - أن المحكم هو قوله تعالى: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [20]، والآيتان اللتان بعدها، وأن المتشابه هو الذي تشابه على اليهود من أسماء حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور. - أن المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ. - أن المحكم ما كان دليله واضحاً، والمتشابه يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل. - أن المحكم كل ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي أو خفي، والمتشابه ما لا سبيل إلى العلم به. - أن المحكم ما أحكم الله فيه بيان حلاله وحرامه، والمتشابه ما أشبه بعضه بعضاً في المعاني وإن اختلفت ألفاظه. - أن المحكم من آي الكتاب ما لم يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً. - أن تقسيم المحكم والمتشابه خاص بالقصص، فالمحكم ما أحكم وفصل فيه خبر الأنبياء مع أممهم، والمتشابه ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور. - أن المتشابه ما يحتاج إلى بيان والمحكم ما يقابله. - أن المتشابه ما يؤمن به ولا يعمل به. - أن المتشابه آيات الصفات[21].
هذا التغاير عند المفسرين في بيان معنى المتشابه في حقيقته يدل على معنى واحد كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وسببه أن التشابه أمر إضافي، فقد يشتبه على هذا ما لا يشتبه على هذا[22]، ولذلك يمكن جعل هذه المعاني كلها في إطار واحد فيقال: إن المتشابه هو ما استأثر الله بعلمه أو ما احتمل أوجهاً؛ ليتناسب مع الوقف في الآية المعنية على خلاف فيه يسع المعنيين اللذين جعلناهما في حده آنفاً، وأنى كان المعنى فالواجب تجاه المتشابه أن يفسر في إطار المحكم كما أشارت إلى ذلك الآية نفسها في قوله تعالى: ﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [23]، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم "[24]، قال ابن القيم: " فلهم طريقان في رد السنن، أحدهما: ردها بالمتشابه من القرآن أو من السنن. والثاني: جعلهم المحكم متشابهاً ليعطلوا دلالته "[25].
وأما الصنف الثالث: فهم المهتدون وهم الذين قدموا قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم في وصفهم: " وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث كالشافعي والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والبخاري وإسحاق فعكس هذه الطريق وهي أنهم يردون المتشابه إلى المحكم ويأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ويبينه له فتتفق دلالته مع دلالة المحكم وتوافق بعضها بعضاً فإنها كلها من عند الله وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره "[26].
وقبل ذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والمقصود هنا أن الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقل، ويعرف برهانه ودليله إما العقلي، وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالة القرآن على هذا وهذا. وتجعل أقوال الناس التي قد توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيقال لأصحاب هذه الألفاظ: يحتمل كذا وكذا، ويحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول صلى الله عليه وسلم قبل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد "[27].
ومما ينبه عليه في هذا السياق: أن العلماء متفقون على أن ليس في القرآن ما لا معنى له، وأن جميع ما فيه مما يفهم معناه، ويمكن إدراكه بتدبر وتأمل، وليس فيه ما لا يمكن أن يعلم معناه أحد[28]، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ولا يجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع الأمة لا يعلمون معناه، كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين، وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ "[29].
وهذا التقرير يتوافق قطعاً مع مقتضى النصوص الشرعية كقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [30]، إلا أن هذا ليس معناه أن يخوض كل إنسان في القرآن حسب فهمه، فيكون عرضة للأهواء، وإنما يتناوله كل أحد بحسبه بما يتناسب مع قدر علمه ومعرفته، ولعل كلام ابن عباس رضي الله عن يشير إلى هذا، حيث جعل التفسير أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهله، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه فقد كذب[31].
وقد جمع الله هذه الأصناف الثلاثة في قوله: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ [32].
الدرس الثاني: مع قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [33]، وقد وردت عدة روايات في بيان سبب نزول هذه الآية عن أم سلمة وابن عباس والحارث بن ضرار أخرجها الإمام أحمد والطبري والطبراني والبيهقي وغيرهم، وفيها " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فَرَقَ - أي خاف - فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث البعث إلى الحارث، وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث. فلما غشيهم، قال: إلى من بعثتم. قالوا: إليك. قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله. قال: لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني وما قبلت إلا حين احتبس علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، خشيت أن يكون سخطة من الله ورسوله. فنزلت: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ "[34].
وهذه الرواية قد أقرها أكثر المفسرين والعلماء، وأخذوا بمضمونها في تفسير هذه الآية، ولقد وقف الباحث على كثير من كتب التفسير التي اعتبرت هذه الرواية، وصدقتها، وجعلتها سبباً للآية، ومن هذه التفاسير: تفسير الطبري[35]، وابن أبي حاتم الرازي في تفسيره[36]، وعبد الرزاق الصنعاني في تفسيره[37]، وتفسير ابن أبي زمنين[38]، وأبو السعود في تفسيره[39]، وابن كثير[40]، وابن عطية[41]، والآلوسي[42]، والشوكاني[43]، والبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي[44]، والرازي في تفسيره[45]، والزمخشري في الكشاف[46]، والشنقيطي في أضواء البيان[47]، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن[48]، وابن الجوزي في زاد المسير[49]، والنسفي في تفسيره[50]، والسمرقندي في بحر العلوم[51]، وابن القيم في المدارج[52]، والجصاص في أحكام القرآن[53]، والغرناطي في التسهيل[54]، والثعالبي في تفسيره[55]، والسيوطي في الدر المنثور[56]، والمراغي في تفسيره[57]، والقاسمي في محاسن التأويل[58]، وفي ظلال القرآن[59].
فهذه التفاسير قد اعتبرت هذه الرواية عمدة في تفسير الآية وجعلتها سبباً لنزولها، بل ذهب البعض إلى أبعد من هذا فاستدلوا بها على أن الصحابة رضي الله عنهم ليسوا كلهم عدولاً، كما قال ذلك الآلوسي في روح المعاني وقد تردد في الحكم على ذلك واضطرب فيما يظهر: " واستدل بها على أن من الصحابة من ليس بعدل؛ لأن الله تعالى أطلق الفاسق على الوليد فيها، فإن سبب النزول قطعي الدخول، وهو صحابي بالاتفاق، فيرد بها على من قال: إنهم كلهم عدول، ولا يبحث عن عدالتهم في رواية ولا شهادة. وهذا أحد أقوال المسألة، وقد ذهب إليه الأكثر من العلماء السلف والخلف.
وثانيها: أنهم كغيرهم فيبحث عن العدالة فيهم في الرواية والشهادة إلا من يكون ظاهرها أو مقطوعها كالشيخين.
وثالثها: أنهم عدول إلى قتل عثمان رضي الله تعالى عنه ويبحث عن عدالتهم من حين قتله لوقوع الفتن من حينئذ وفيهم الممسك عن خوضها.
ورابعها: أنهم عدول إلا من قاتل علياً كرم الله تعالى وجهه لفسقه بالخروج على الإمام الحق وإلى هذا ذهبت المعتزلة.
والحق ما ذهب إليه الأكثرون وهم يقولون: إن من طرأ له منهم قادح ككذب أو سرقة أو زنا عمل بمقتضاه في حقه إلا أنه لا يصر على ما يخل بالعدالة بناء على ما جاء في مدحهم من الآيات والأخبار وتواتر من محاسن الآثار، فلا يسوغ لنا الحكم على من ارتكب منهم مفسقاً بأنه مات على الفسق، ولا ننكر أن منهم من ارتكب في حياته مفسقاً لعدم القول بعصمتهم وأن كان يقال له قبل توبته فاسق لكن لا يقال باستمرار هذا الوصف فيه ثقة ببركة صحبة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومزيد ثناء الله عز وجل عليهم "[60]، أي من صحة الاستدلال بالآية وارتباطها بالرواية السابقة. ولعل الاتفاق من جمهور المفسرين على هذه الرواية هو الذي جعلهم لا يقفون عندها.
والمسألة لا بد لها من دراسة ونظر، وقد علمنا أن الآلوسي وغيره يستدلون بها على أن الصحابة ليسوا كلهم عدولاً، وهذا يفتح الباب على مصراعيه للطعن في الصحابة الكرام خاصة من قبل الروافض الذين يحاولون بخيلهم ورجلهم الصيد في الماء العكر بغية الطعن في الصحابة الكرام، بل بعضهم قد استطال القول في الطعن بالوليد حينما قال قاطعاً بكونه فاسقاً: " فالفاسق المشار إليه في الآية هو الوليد بن عقبة ولم يزل بعد ذلك يفعل أفعال الفسَّاق حتى صلى بالناس صلاة الصبح أربع ركعات وهو سكران ثم قال لهم أزيدكم إن شئتم ثم "[61].
وكان حرياً بالآلوسي أن يقطع القول بعدالة الصحابة أجمعين خاصة وأن هناك من المحققين من نقل الإجماع على ذلك كما هو شأن الإمام النووي حينما قال: " اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهادتهم وروايتهم وكما عدالتهم - رضي الله عنهم - أجمعين "[62]، ولذلك قال ابن عاشور: "واعلم أن جمهور أهل السنة على اعتبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عدولاً، وإن كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو من أصحابه.. وإنما تلقف هذه الأخبار الناقمون على عثمان رضي الله عن، إذ كان من عداد مناقمهم الباطلة أنه أولى الوليد بن عقبة إمارة الكوفة، فحملوا الآية على غير وجهها، وألصقوا بالوليد وصف الفاسق، وحاشاه منه، وعلى تسليم أن تكون الآية إشارة إلى فاسق معين فلماذا لا يحمل على إرادة الذي أعلم الوليد بأن القوم خرجوا له ليصدوه عن الوصول إلى ديارهم قصداً لإرجاعه "[63].
فهو هنا رحمه الله يشكك في صحة الاستدلال الذي تقدم عند المفسرين اعتماداً على الأصل وهو عدالة الصحابة جميعهم، وإن لم يضَعَّف الروايات التي وردت في هذا الشأن؛ كونه لم يتعرض لأسانيدها، وقبل ذلك قد انتقد الفخر الرازي متن هذه الروايات حينما قال بعد أن ذكر الرواية وكونها سبباً لنزول الآية: " وهذا جيد إن قالوا بأن الآية نزلت في ذلك الوقت، وإما إن قالوا: بأنها نزلت لذلك مقتصراً عليه ومتعدياً إلى غيره فلا، بل نقول: هو نزل عاماً لبيان التثبت وترك الاعتماد على قول الفاسق، ويدل على ضعف قول من يقول: إنها نزلت لكذا أن الله تعالى لم يقل إني أنزلتها لكذا، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه بين أن الآية وردت لبيان ذلك فحسب، غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت، وهو مثل التاريخ لنزول الآية، ونحن نصدق ذلك، ويتأكد ما ذكرنا أن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد شيء بعيد؛ لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقاً، وكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن ربقة الإيمان "[64].
وقد تصدى لنقد الأسانيد العلامة محب الدين الخطيب في تعليقه على العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي حيث قال: " كنت فيما مضى أعجب كيف تكون هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة ويسميه الله فاسقاً، ثم تبقى له في نفس خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر المكانة التي سجلها له التاريخ، وبعد أن ساورني هذا الشك أعدت النظر في الأخبار التي وردت عن سبب نزول الآية فلما عكفت على دراستها وجدتها موقوفة على مجاهد أو قتادة أو ابن أبي ليلى أو يزيد بن رومان، ولم يذكر أحد منهم أسماء رواة هذه الأخبار في مدة مائة سنة أو أكثر مرت بين أيامهم وزمن الحادث، وهذه المائة من السنين حافلة بالرواة من مشارب مختلفة، وإن الذين لهم هوى في تسوئ سمعة مثل الوليد ومن هم أعظم مقاماً من الوليد قد ملأوا الدنيا أخباراً مريبة ليس لها قيمة عليمة "[65].
ثم حكم رحمه الله بضعف هذه الروايات لأن فيها مجهولين وقال: " وهنالك خبران موصولان أحدهما عن أم سلمة زعم موسى بن عبيدة أنه سمعه من ثابت مولى أم سلمة. وموسى بن عبيدة ضعفه أحمد وابن المديني وابن عدي وجماعة. والخبر الثاني الموصول رواه الطبري في التفسير عن ابن سعد وهو محمد بن سعد العوفي، وقد وصف الشيخ أحمد شاكر سنده بأنه سند مسلسل بالضعفاء من أسرة واحدة. فكل هذه الأخبار من أولها إلى آخرها لا يجوز أن يؤاخذ مجاهد كان موضع ثقة أبي بكر وعمر وقام بخدمات للإسلام يرجى له بها أعظم المثوبة إن شاء الله "[66].
أضف إلى هذا أن أبا بكر ابن العربي أورد رواية عند الإمام أحمد في مسنده عن الوليد بن عقبة: أن الوليد سيق يوم الفتح في جملة الصبيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح رؤوسهم وبرك عليهم إلا هو فقال: إن كان على رأسي خلوق. وعلق على هذه الرواية ابن العربي فقال: " فمن يكون في مثل هذه السن يرسل مصدقاً "[67].
وقد صحح الرواية الشيخ محب الدين الخطيب، وعند ذلك يثبت لنا ضعف الروايات سنداً ومتناً، وتبقى الآية دالة على مضمونها من التثبت في الأخبار ويكون حالها كحال غالب آيات القرآن التي نزلت بلا سبب.
ولأستاذنا الدكتور طه ياسين الخطيب بحث ماتع في سبب نزول هذه الآية خلص فيه إلى القول: " نقول جازمين: إن الوليد بن عقبة رضي الله تعالى عنه برئ مما نسب إليه، وأن هذه الآية التي أنزلها الله تعالى وجعلها قاعدة للتثبت والتبين توجب علينا أن نتثبت وأن نتبين فيما نقول. وبناء على ذلك فأنا أوصي طلاب العلم أن لا يكتفوا بالنقل عن المراجع دون تمحيص؛ وذلك لأن مؤلفيها لم يشترطوا الصحة فيما يذكرون، كما أن على طالب العلم أن يكون ذا معرفة باصطلاحات العلماء حتى لا يخطئ في فهم كلامهم "[68].
وهذا التقرير الذي خلصنا إليه ليس فيه أي دعوى للقول بعصمة الصحابة قطعاً، فنحن نقطع ببشريتهم وكونهم يصيبون ويخطئون لكن هذا ليس مبرراً لسلب عدالتهم، ومذهب أهل السنة والجماعة في الصحابة سلامة قلوبهم وألسنتهم لهم، كما وصفهم الله بذلك في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [69]، وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم لا نصيفه "[70]، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم[71].
هذه الآية أعيد فيها الخطاب والنداء لتخصيص ما بعده بالاهتمام، وهي قاعدة وأصل عظيم في تلقي الأخبار والرواية والعمل بها.
قال الشنقيطي: " وقد دلت هذه الآية من سورة الحجرات على أمرين: الأول منهما أن الفاسق إن جاء بنبأ ممكن معرفة حقيقته، وهل ما قاله فيه الفاسق حق أو كذب فإنه يجب التثبت. والثاني هو ما استدل عليه بها أهل الأصول من قبول خبر العدل؛ لأن قوله تعالى: ﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6] يدل بدليل خطابه أعني مفهوم مخالفته أن الجائي بنبأ إن كان غير فاسق بل عدلاً لا يلزم التبين في نبئه على قراءة فتبينوا، ولا على التثبت على قراءة فتثبتوا. وهو كذلك "[72].
وهذا الذي قرره الشنقيطي قد فصَّل فيه القولَ فخر الدين الرازي في محصوله فقال: " أمر بالتثبت مرتباً على كونه فاسقاً، والحكم المرتب على الوصف المشتق المناسب يقتضي كونه معللاً بما منه الاشتقاق، ولا شك في أن الفسق يناسب عدم القبول، فثبت بما ذكرنا أن خبر الواحد لا وجب لا يقبل لامتنع تعليل أن لا يقبل خبر الفاسق بكونه فاسقاً، وثبت أنه معلل به، فخبر الواحد لا يجب أن يقبل: فهو إذن مقبول في الجملة، ومن الناس من يتمسك بالآية على وجه وهو أنه تعالى أمر بالتثبت بشرط أن يكون الخبر صادراً عن الفاسق، والمشروط بالشيء عدم عند عدم الشرط، فوجب أن لا يجب التثبت إذا لم يوجد مجئ الفاسق، فإذا جاء غير الفاسق ولم يتثبت فإما أن يجزم بالرد، وهو باطل، وإلا كان خبر العدل أسوء حالاً من خبر الفاسق، وهو باطل بالإجماع، فيجب القبول، وهو المطلوب "[73].
وفي هذا العصر كثيراً ما تنقل أخبار وفتاوى عن العلماء خلاف ما يصح عنهم، وما ذلك إلا بسبب سوء الفهم أو عدم التثبت والتبين، وهذا بلا شك يوقعهم في إثم مركب، فهو ما بين الكذب على العلماء والطعن فيهم بغير وجه حق، فما أحوج الناس اليوم إلى مقتضى هذه الآية الكريمة والوقوف على ضوابطها الشرعية، فيشاع بين طلبة العلم والعامة أن من عرف عنه الصدق والدين وجودة الحفظ والفهم وحسن التعبير والأداء فإننا ننقل خبره دون تثبت، ومن اختلفت فيه صفة من هذه الصفات أو شابهها - مثل كلام الأقران بعضهم في بعض - فإنه يحتاج إلى التثبت من خبره، وخاصة إن كان الخبر تترتب عليه أمور مهمة.
ومن لوازم التثبت: أن لا يعتمد على الكلام الشائع الذي يلوكه الناس بدون بصيرة أو فهم، قال الحافظ ابن حجر: " إن الذي يتصدى لضبط الوقائع من الأقوال والأفعال والرجال يلزمه التحري في النقل فلا يجزم إلا بما يتحققه، ولا يكتفي بالقول الشائع، ولا سيما إن ترتب على ذلك مفسدة من الطعن في حق أحد من أهل العلم والصلاح، وإن كان في الواقعة أمر فادح سواء كان قولاً أو فعلاً أو موقفاً في حق المستور فينبغي ألا يبالغ في إفشائه، ويكتفي بالإشارة لئلا يكون قد صدر منه فلتة، ولذلك يحتاج المسلم أن يكون عارفاً بمقادير الناس وأحوالهم ومنازلهم، فلا يرفع الوضيع، ولا يضع الرفيع "[74]، وهذا الذي دلت عليه النصوص الشرعية كتاباً وسنة، قال تعالى: ﴿ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ﴾ [75]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [76]، وقال عليه الصلاة والسلام: " نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه "[77].
ولا شك أن هذه القاعدة التي دلت عليها الآية تمثل ضمانة للمجتمع المسلم من أن تأخذها الأهواء والظنون الموهومة، فأوجب التفريق بين خبر الفاسق وخبر العدل، ولهذا قال صاحب الظلال: " ومدلول الآية عام، وهو يتضمن مبدأ التمحيص والتثبت من خبر الفاسق، فأما الصالح فيؤخذ خبره؛ لأن هذا هو الأصل في الجماعة المؤمنة، وخبر الفاسق استثناء، والأخذ بخبر الصالح جزء من منهج التثبت؛ لأنه أحد مصادره، أما الشك المطلق في جميع المصادر وفي جميع الأخبار فهو مخالف لأصل الثقة المفروض بين الجماعة المؤمنة، ومعطل لسير الحياة وتنظيمها في الجماعة. والإسلام يدع الحياة تسير في مجراها الطبيعي، ويضع الضمانات والحواجز فقط لصيانتها لا لتعطيلها ابتداء، وهذا نموذج من الإطلاق والاستثناء في مصادر الأخبار "[78].
________________________________________
[1] في ظلال القرآن، ج6ص3335.
[2] الحجرات، آية 2.
[3] البخاري، كتاب التفسير، باب: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، رقم 4564.
[4] تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، ج26ص213.
[5] الحجرات، آية 1.
[6] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، ج26ص116.
[7] المرجع السابق، ج26ص116.
[8] أحكام القرآن، أبو بكر بن العربي، ج4ص145.
[9] يوسف، آية 40.
[10] فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج35ص361.
[11] أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، ج7ص650.
[12] فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج13ص28.
[13] أبو داود، كتاب السنة، باب شرح السنة، رقم 4596، الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، رقم 2640، ابن ماجة، كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، رقم 3991.
[14] أبو داود، كتاب السنة، باب شرح السنة، رقم 4597.
[15] الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، رقم 2461.
[16] انظر: صفة الغرباء، سلمان بن فهد العودة، ص83.
[17] البقرة، آية 6 - 7.
[18] آل عمران، آية 7.
[19] تفسير المنار، محمد رشيد رضا، ج3ص164.
[20] الأنعام، آية 151.
[21] لا يصح هذا الإطلاق، وإنما يصح أن يقال: إن آيات الصفات محكمة من حيث المعنى متشابهة من حيث الكيفية.
[22] مجموع الفتاوى، ج17ص386.
[23] آل عمران، آية 7.
[24] البخاري، كتاب التفسير، باب منه آيات محكمات، رقم 4273.
[25] إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، ج2ص294.
[26] المرجع السابق، ج2ص294.
[27] مجموع الفتاوى، ج13ص145.
[28] معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة، محمد بن حسين الجيزاني، ص110.
[29] مجموع الفتاوى، ج17ص390.
[30] القمر، آية 17.
[31] فصول في أصول التفسير، مساعد بن سليمان الطيار، ص17.
[32] الأعراف، آية 179 - 181.
[33] الحجرات، آية 6.
[34] سنن البيهقي، كتاب السير، باب قسمة الغنيمة في دار الحرب، رقم 17754.
[35] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، مرجع سابق، ج26ص123.
[36] تفسير ابن أبي حاتم الرازي، ص3303.
[37] تفسير القرآن، عبد الرزاق بن همام الصنعاني، ج3ص231.
[38] تفسير القرآن العزيز، ابن أبي زمنين، ج4ص261.
[39] تفسير أبي السعود، أبو السعود بن محمد العمادي، ج5ص173.
[40] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ج4ص266.
[41] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ابن عطية الأندلسي، ج5ص146.
[42] روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، العلامة الآلوسي البغدادي، ج26ص144.
[43] فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي الشوكاني، ج5ص62.
[44] البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، ج8ص109.
[45] التفسير الكبير ومفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، ج28ص119.
[46] الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، أبو القاسم الزمخشري، ج4ص362.
[47] أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن، مرجع سابق، ج7ص663.
[48] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ج19ص367.
[49] زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، ج7ص460.
[50] تفسير النسفي، النسفي، ج4ص163.
[51] تفسير بحر العلوم، أبو الليث السمرقندي، ج3ص308.
[52] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ابن قيم الجوزية، ج1ص360.
[53] أحكام القرآن، أحمد بن علي الرازي الجصاص، ج5ص278.
[54] التسهيل لعلوم التنزيل، محمد بن أحمد الغرناطي الكلبي، ج4ص58.
[55] تفسير الثعالبي، عبد الرحمن الثعالبي المالكي، ج5ص269.
[56] الدر المنثور في التفسير بالمأثور، جلال الدين السيوطي، ج6ص91.
[57] تفسير المراغي، أحمد مصطفى المراغي، ج26ص126.
[58] محاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي، ج8ص522.
[59] في ظلال القرآن، مرجع سابق، ج6ص3341.
[60] روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، مرجع سابق، ج26ص146.
[61] التسهيل لعلوم التنزيل، مرجع سابق، ج4ص59.
[62] صحيح مسلم بشرح النووي، النووي، ج15ص149.
[63] التحرير والتنوير، مرجع سابق، ج26ص230.
[64] التفسير الكبير ومفاتيح الغيب، مرجع سابق، ج28ص119.
[65] من تحقيق الشيخ محب الدين الخطيب على كتاب العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي، ص102.
[66] المرجع السابق، ص102.
[67] المرجع السابق، ص103.
[68] سبب نزول الآية السادسة من سورة الحجرات " دراسة ونقد "، د. طه ياسين الخطيب، مجلة الباحث الجامعي، جامعة إب، العدد الأول، 1998م، ص32.
[69] الحشر، آية 10.
[70] البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذاً خليلاً، رقم 3470.
[71] مجموع الفتاوى، مرجع سابق، ج3ص152 - 155.
[72] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، مرجع سابق، ج7ص663.
[73] المحصول في علم أصول الفقه، فخر الدين الرازي، ج4ص365.
[74] فقه التعامل مع الأخطاء على ضوء منهج السلف، د. عبد الرحمن بن أحمد علوش المدخلي، ص13.
[75] التوبة، آية 47.
[76] النساء، آية 83.
[77] أخرجه ابن ماجة في المقدمة، باب من بلغ علماً، رقم 230.
[78] في ظلال القرآن، مرجع سابق، ج6ص3341.

اكتب تعليق

أحدث أقدم