بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن الثورة المضادَّة للغزو الفكري بحاجة أكيدة لحضورِ البحث العلمي بقوَّة - كعاملِ تحدٍّ ومجابهةٍ لأشكال التحريف والتَّضْلِيل التي ينشدها كلُّ عدوٍّ يحارب المناهجَ الحقيقية - لتحقيق الحضارةِ المتينة بالنسبة لنا كمسلمين نعشق كلَّ ما للإسلام يَنْتمي من هُوِيَّة وانتماء ومبادئ تشكِّل المحورَ الأساسي لأيِّ مسلم.
وعليه؛ فإن المؤامرة الدَّائبة للغزو الفِكْري لم تكن وليدةَ اليوم أو الأمس القريب تحت لواء العولمة، وتسارع آلية البحث العلمي من تكنولوجيا مكثفة؛ حيث تضمن التبادل السريع للمعلومة، مهما اختلف مضمونُها والقالبُ الذي نُقلت عليه وفيه.
والكلُّ يعرف أن المسلمين واجهوا الغَزْوَ الفكري على فتراتٍ متوالية من تاريخِهم، حين حاولَت الفلسفةُ اليونانية الوثنية، وحين حاولت المجوسيَّة إخراجَهم عن مقوِّماتهم؛ فقابل الفكرُ الإسلاميُّ هذا التحدِّي بجهادٍ تكلَّل بالظَّفر والنجاح، واليوم يواجه غزوًا أشدَّ ضراوةً مِن سابقه في محاولةٍ للفلسفات الاستشراقية الغربية إخراجَه من لُبِّ انتمائِه وحقيقة عزَّته التي حبا اللهُ بها كلَّ مسلم، إضافة إلى الحرب التي تشنُّها القوى الاستعمارية والإلحاديَّة والصهيونية على مقوِّمات الفكرِ الإسلامي باعتباره قوَّةً تمثِّل الحصونَ التي يحتمي بها في وجه الغزوِ السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
لذلك؛ كان لزامًا على الأمة الإسلامية أن تتقوَّت بالعلم الصحيح، وتَمنح البحثَ العلمي في مختلف مجالاته الإطارَ الواسعَ؛ ليحظَى بالتحصيل الجيِّد للمعرفة والمكتسبات والثقافة الموزونَة التي من شأنِها أن تمنحَ العقلَ البشري انفتاحًا مراقبًا من الذَّات القوية والضمير الحي؛ حتى تمنح فرصةً للنهضة بانشراحٍ في مختلف هياكِل التغيير المطلوب إحداثُه آنيًّا أو مستقبلاً؛ لأنه أضحى حقيقةً حتميَّةً لا مفرَّ منه في ظلِّ ما تفرضه العولَمةُ من تحكُّمٍ غير مباشر في توجُّهات الإرادات السياسية التي من شأنِها أن تحوِّل المسارَ الاقتصادي والاجتماعي إلى اتِّجاهٍ آخر؛ حيث يعطي للفكر أطروحاتٍ جديدةً في الخطَّة، ومحاور تناول القضايا ربَّما بشكلٍ لن يخدم قضايانا المصيريَّة التي أصبحَت تدقُّ ناقوسَ الخَطَر أكثر من أيِّ عصرٍ مضى.
فالباحث في تركيبَةِ كِيانِه هو - أساسًا - روحٌ وجسد وعقلٌ مفكِّر، وكل منهجٍ بحثي يجب أن يرتبط بقوامة التجانُس فيما بين التركيبة الروحيَّة والماديَّة التي تضمها طلاقةُ اللسان الفصيح باللغة الصحيحة من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أخرى ضرورة التَّجانُس فيما بين العقلِ ومحتوى العلم المنصبِّ في بواطن العقل ليخلُقَ ما يسمَّى المعرفة البحثيَّة النيِّرة بعد تمحيصِها من شوائب اللاَّترتيب واللاَّمنطق، حينما لا تتَّصل الأفكار والمضامين فيما بينها.
ولتحقيق هذا المراد؛ هناك أضواءٌ يجب إلقاؤها على تيَّار التغريب والغزوِ الثقافي ليتمَّ الإعدادُ الصحيح للثَّورة العلميَّة المضادَّة، التي تحتمي تحت دِرْع البحث العلميِّ الراقي والكُفْءِ بكلِّ ما يشمله من معلوماتٍ ونظريات تُشكَّل في محتوى عناوين لأطروحاتٍ جديدة، وهذا ما يمكن استخلاصُه عادةً بل غالبًا في خاتمة البحث.
يحضرني في هذا المقام مقولة كريستي موريسون مؤلِّف كتاب: " العلم يدعو للإيمان": "إن العلماء مع كثرتِهم لا يمكنهم إنكار وجودِ الله؛ إذ إن كلَّ عالِم يشعر بداخله بقوَّة الإحساسِ أو الفِكر أو الذَّاكرة".
إذًا؛ هذه القوَّة الخفيَّة التي تسيِّر الكون هي من خلقَت العقلَ البشري ليفكِّر ويحلِّل ويستخلص النتائجَ، هذه النتائج هي دائمًا حَوْصلةٌ لمجهودات بُذِلَت في البحوث العلميَّة، ولا زالت تجدَّد في كلِّ فرصة بحثية.
إن الفكرة التي اخترتُها للنهضة في انشراحِها هي بمعنى أن تَتَّخذ من البحث العلمي نفسًا ومنهجًا وسبيلاً للتدفُّق على مرأًى من صناعة فِكْرٍ متجدِّد يهدم كلَّ رواسب التخلُّف والرجعيَّة لمبادئ لا تخدُمنا بالمرَّة، وليست تنتمي أصلاً لعقيدتِنا.
فهذا الانشراحُ من شأنِه أن يعيدَ للحضارة الإسلامية نجوميَّتَها السابقة عَبْر تواريخ خَلَت وتستعيد بالنهضة مجدَها العتيد، بشرط إيلاء الأهميَّة البالغة للبحثِ العلمي وترتيبه ضِمْن أولويَّات اهتمام أيِّ دولةٍ تسعى لِأن تجد لها مخرجًا من مشاكلها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي هي مرتبطة بفكرة الأخلاقِ والعلم.
إن وجود الإنسان على وجهِ الأرض وسلوكه الذكي إنَّما هو الدليلُ القاطع على ذاك الجزءِ الصغير من البرنامج الحياتي، الذي خلَقَه اللهُ عز وجل بنواميسَ مضبوطة في حلقة دورانيَّة مرتَّبة لكواكِب تؤدِّي وظيفةَ التوازن الكوني، وما يجعل العقلَ البشري يستسيغُ لُبَّ هذا النظام هو سعيُه الحثيث للبحث العلمي، ومواكبة الإعجاز العلمي لكلِّ حقائق المخلوقات، ونَمط الحياة الذي استسلمَت له أقلامٌ مُلْحدة كثيرة، واضعة نصْبَ عينيها أن الله حقيقةٌ أكيدة بنتائج علميَّة، سعَت إليها مساعي هؤلاء المنافسين بأفكارِهم البالية أمام قدرة الله عز وجل.
وهذه الطمأنِينَة إلى حقيقة التوحيد هي دِرع قوية لفكرة الانشراحِ النَّهضوي؛ ففيه تسير النهضةُ نحو مدارج الرُّقِي بخطواتٍ وثيقة، ليس يشوبها شكٌّ آو ظنٌّ؛ لأن ما بُنِي على حقائق الإقرار والاعتراف ليس يضلُّ طريقَه أبدًا؛ لأنه سيصنع مجدًا وحضارة وتميزًا.
إذًا؛ الكلُّ مرتبِط ببعضِه البعض، فالأساسُ الضروري لأيِّ نهضة هو الاهتمامُ بالعلم والعلماء، ومنحُهم الفرصةَ تِلْو الأخرى؛ لمزيدٍ من التطوُّر والازدهار في شتَّى المجالات، فأمَّةٌ لا تفكِّر ولا تصنع ولا تبحث ولا تُبدع، هي أمَّةٌ محكومٌ عليها بالفشل مهما جنَت من أموالٍ طَائِلَة من بواطن الأرض من ذَهَبٍ أسود أو خيراتٍ لم تُسْتغلَّ الاستغلال الجيِّد بفكرٍ بحثيٍّ يستثمر ويطوِّر وينمِّي لَبِنَة هذه الثروة، فالاعتماد على الموجودات لا يكفِي، بل لا يسدِّد حاجات شَعْب لسنوات قادِمة؛ إذ إن التخطيطَ يمنح تساؤلات جديدة عمَّا لو نفدت هذه الثروات، فماذا سيكون مصدر عيشِ الشعوب، إِنْ هي لم تستثمِر وتنمِّي ملَكَات عقول مفكِّريها في أن يستغلُّوا ما مُنح لهم من وسائل تعطِيهم إمكانيَّةً لخَلْق فُرَص أخرى للعيش عيشًا هنيًّا يُسكِت الحاجة للاستِيراد وطلبِ المساعدة إن حلَّت سنواتٌ عِجَاف، لا قدَّر الله.
إذًا؛ بالعلم نتطوَّر ونَرْتقي، بالعلم نكفُّ سؤالنا لغيرنا، بالعلم تنشرحُ صدورُنا في أن نقتَات مما تصنعُه أيدينا، ونلبس ما تنسجه أنامِلُنا، وهذا حفظٌ أكيد لماء الوجه من السؤال.
كفانا إذًا تبعيَّة لفكرٍ غربيٍّ في ظلِّ تحدِّياتٍ واضحَةٍ من خلالِ الاستعمار والسيطرة التي فرَضَها التخطيطُ الغربيُّ في وسائل الإعلام ومظاهرِ الثقافة، هذه التبعيَّة لسنا نتوجَّه إليها فطريًّا كمسلمين، إنما فُرضَت علينا بالقوة، ويجب التصدِّي لها بثورةٍ علميَّة مضادَّة، يجسِّدها العلمُ بكلِّ وسائل البحث والتعلُّم والمناهج السليمة؛ للتحصِيل المعرفي لصدِّ خَطَر الغَزْو والاستعمار الفكري؛ حتى لا نضيِّع هُويتنا ومبادئنا وكيانَنا كمسلمين.
إذًا؛ لنكن أو لا نكون، ولا وسط بينهما في ظلِّ ثورةٍ تكنولوجية شاسعة يَمُوجُ بها بحرٌ مِن المعلومات والمعارف التي تحتاجُ اليومَ لعمليَّةِ تمحيصٍ وتَدْقِيق قَبْل الإقبالِ عليها وأخذِها كمراجِع يُعتمَد عليها كسندٍ للمعلومة البحثية.
إرسال تعليق