بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لا شك فيه أن رحلة الحياة طويلةٌ وشاقَّةٌ يحتاجُ فيها المسافر إلى ما يحفَظُه في سفَرِه وإلى ما يُعِينه على بُلوغ مَقصِده الآمِن الناعم، وصدَق مَن قال: إنَّ الناس في هذه الرحلة لا يتفاوَتون بالصُّوَر إنما بالهِمَم، والهمَّة هي التي تحثُّ المسافر على السَّير، ولا تجعَلُه ينسى في واحات الراحة والتزوُّد وجهتَه وغايتَه.
ويُعرِّف بعضُ العلماء الهمَّة بأنها بمثابة الطاقة الكامنة في ذَواتنا، والتي تدفَعُنا للحركة والعمل، وإذا انطَلقتْ هذه الطاقة من جَوانِب الخير في نفوسنا، كانت الحركة تجاه الخير ومعالي الأمور، وإنْ كان مصدر هذه الطاقة النفس الأمَّارة بالسُّوء فإنَّ الحركة تنصبُّ في الشر، أو في أقلِّ أحوالها تتَّجه نحو خيرٍ ناقص مَشُوب بشرور الشبهات والشهوات.
ويَصِفُ ابن الجوزي في كتابه "صيد الخاطر" عُلُوَّ الهمَّة في الخير بأنَّه عَلامة أكيدةٌ من عَلامات كمال العقل ورُجحانه، و المتأمِّل في سير الأعلام وتراجم العُظَماء يرى مِصداق المقولة التي ذكَرْنا في أوَّل المقال: إنَّ الناس لا يتفاوَتون بالصور إنما بالهمم، فهذا مُحدِّث حَفِظَ بهمَّته العالية لأمَّة الإسلام آلافًا من الأحاديث النبويَّة الصحيحة ومُتونها، وهو دَميم الخِلقة أو أعمى أو أعمش، وذلك فقيهٌ جِهبِذٌ اهتدت الأمَّة باستِنباطاته الفقهيَّة وهو غُلامٌ لم يدرك الحلمَ بعدُ، وذلك صَحابي أسلَمَ متأخرًا ولكنَّ همَّته العالية سطرت له مواقفَ من البُطولة ومشاهد من الفضل، جعلَتْه يَفُوقُ ويبزُّ الكثير ممَّن سبَقَه إلى الإسلام، وفي كلٍّ خيرٌ مع تَفاوُت العطاء.
وقد يكون علوُّ الهمَّة في بعضه أمرًا جبليًّا فطَر الله بعضَ البشر عليه، ولكنَّ الحقَّ في هذه المسألة أنَّ أصحاب الهمم العالية أدرَكُوا بفِطنتهم ضرورة شحْذ الهمَّة وتقويتها، وحتى نتعلَّم الوسائل التي ترتقي بالهمم فلا بُدَّ لنا من دِراسة مُتفحِّصة ومُتمعِّنة في سير العظماء من العُلَماء والمصلحين والمربِّين الذين أحيَوْا بهممهم الأُمَم.
ونخلص من هذه الدِّراسة بأنَّ الإخلاص هو أهمُّ وسائل تقوية الهمَّة على الإطلاق، ولنستمعْ لقولٍ بديعٍ للعلامة ابن القيِّم في كتاب "الفوائد": "والمطلب الأعلى - أي: عز الدنيا والآخِرة - موقوفٌ حُصوله على الهمَّة العالية والنيَّة الخالصة".
ولله در المصطفى - صلى الله عليه وسلم - خير العابدين والشاكرين، الذي كان ولم يزلْ المثَل الأعلى في عُلوِّ الهمَّة وخُلوص المقصد.
ولقد اقتفى أثَرَ النبيِّ الكريم صَحابتُه الكِرام وأهل القُرون الفاضلة وسطر لهم التاريخ عَظِيم الفعال وجميل المقال، وتُنسَب إلى الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز مقولةٌ عن الهمَّة لو سطرت بماء الذهب لكان قليلاً في حقِّها، يقول الخليفة عمر: "إنَّ لي نفسًا تَوَّاقةً؛ كُلَّما أدرَكتْ أمرًا تمنَّت ما هو أعلى منه، ولقد بلغت الخلافة وإني لأَتوقُ إلى الجنَّة".
ولقد ارتفعت الهمم العالية بأصْحابها درجات وجعلَتْهم يُدرِكون أنَّ كلَّ شيء عدا الجنَّة صغيرٌ لا يُؤبَه له، واستَمِع إلى حديث التاريخ عن همَّة عبد الرحمن الداخل الذي أُهدِيتْ له حين دخل الأندلس جارية يأخُذ حُسنُها بمجامع القلب والعقل، فنطَر إليها وقال: إنها من النظر والقلب بمكان، وإنْ أنا شُغِلتُ عنها ظلمتُها، وإنْ أنا شُغِلتُ بها ظلمتُ نفسي وهمَّتي، وأمَر بردِّها إلى أصحابها.
ومن وسائل تقوية الهمَّة بعد الإخلاص الجديَّة؛ وهي حالةٌ من اليقَظَة أساسُها العلم والبصيرة، والجديَّة مطلبٌ عزيز لا ينالُه إلا مَن جعَل نصب عينَيْه أمورًا ثلاثة: وضوح الهدف والغاية، وصُعوبة الهدف وعُلوَّه، وإدراك أهميَّة الوقت، ومن المهم أنْ نُدرِك أنَّ صُعوبة الهدف وعلوَّه يحفزان الهمَّة ويدفَعان السأم والملل، فإنَّ الصياد تَعظُم متعته إذا كان صيدُه بعيدًا شَرُودًا عزيزَ المنال.
ومن وسائل تقوية الهمَّة: مخالطةُ أهل الهمم العالية، فكلُّ قرينٍ بالمقارن يقتَدِي، وكذلك يُعِينُ على الارتقاء بالهمة الترفُّع عن صغائر الأمور وإدراك ضَخامة العمل اللازم، وصَدَقَ مَن قال: إنَّ الواجبات أكثر من الأوقات، وأهمُّ ما يرتقي بأصحاب الهمم استِشعارُهم عظم الأجر والثواب من الله - سبحانه وتعالى - فإنَّ سِلعة الله غاليةٌ وسلعة الله هي جَنَّةٌ عرضُها السماوات والأرض أُعِدَّتْ للمتقين.
إرسال تعليق