بقلم \ المفكر العربى الدكتورخالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
اشتمل القرآن الكريم على آيات تتعلَّق بقصص، تبلغ عدتُها نحو الألف والنصف تقريبًا، واشتمل كذلك على آياتٍ أخرى تتعلق بالأحكام الشرعية الفرعية، تبلغ عدتها نحو نصف الألف تقريبًا، واشتمل كذلك على آيات أخرى كثيرة تتعلق باليوم الآخر، أحواله وأهوالِه، وحسابه وثوابه وعقابِه، واشتمل كذلك على آيات أخرى كثيرة تتحدَّثُ عن وجودِ الله ووحدانيته، وتَنْعَى على الكافرين مواقفَهم المُخزية من رسولِهم الذي أُرسل إليهم، واشتمل كذلك على آيات أخرى كثيرة تبلُغُ ثلاثة أرباع الألف تقريبًا، تتحدث عن الكائنات والمخلوقات التي أبدَعَتْها قدرةُ الله في الأرض والسماء، والشمس والقمر، والنجوم والكواكب، والليل والنهار، والصُّبح والفجر، والمشرق والمغرب، والمطر والسَّحاب والرياح، والرَّعد والبرق والصواعق، والأنهار والبحار والجبال، والفُلك المواخر، واللؤلؤ والمرجان، والفاكهة والنخل، والزيتون والرمان والأعناب، وكل الثمرات، والملائكة والجن والإنس، والطير والحيوان والأنعام، والخيل والبغال والحمير، والنمل والعنكبوت، والجمادات والعناصر والأجزاء، والزوجية والذكورة والأنوثة، وخلق الأجنَّة في بطون الأمَّهات في ظلمات ثلاث، والنفس البشرية، وعجائب خَلقها وتكوينها، وأطوارها وغرائزها، وطِباعها وملَكاتها، وانفعالاتها ومشاعرها، ووجداناتها؛ من حبٍّ وبُغض، ورضًا وسخط، وشكر وكفر، ونوم وصحو، وغير ذلك مما يندرج تحت عنواننا هذا: “حفاوة القرآن بالحياة والكون والإنسان”.
إن هذا الحشد الحاشد من الآيات القرآنية المتحدثة عن الكون والإنسان والموجودات والمخلوقات، لم يكن وجودُه في القرآن لغوًا وعبثًا، لكن القرآن المجيد قد ذكر هذه المخلوقات والكائنات، وأطنب في ذِكرها وعَرضها على أسماعنا وأنظارنا؛ ليشير إلى مبدأ إسلامي جليل، مبدأ حيوي واقعي، يُرينا ما بين الإسلام والحياة من الترابط والاندماج، هذا المبدأ هو إباحةُ التمتُّع بما خلَق الله في الكون من بهجة وزينة، ومتعة ومنفعة، ففوق ما نراه في هذه المخلوقات من إبداع وجمال ونظام واتساق في أشكالها وألوانها وأحجامها، وطعومها ومذاقاتها وروائحها، نراها من وجه آخر قد ذُلِّلت وسُخِّرت للإنسان، وجُعلت في متناول يده، ورهن إشارته، وتحت إرادته؛ مأكلاً ومشربًا وملبسًا ومسكنًا، وبأي وجه من وجوه الانتفاع، لا يصده عن ذلك صادٌّ، ولا يمنَعُه منه مانع، الأرض قرارٌ ومِهاد وفراش، والسماء سقفٌ وبناء، وكل ما بينهما مِلك الإنسان ومتاعه، ورَحْله في رِحلة الحياة، سائر ما خلق الله في الحياة الدنيا من كائنات ومخلوقات وطيبات رزقٌ للإنسان، لا يحرِّمُ الإسلام عليه شيئًا ما دام يتعاطاه في حدودِ ما حلَّل الله، ولا يستعمله فيما حرَّم الله، ولا ينسى فيه وبسببه جانبَ الله والدار الاخرة، وها هو ذا الله – سبحانه وتعالى – يقول في سورة القصص حاكيًا ما قاله قوم قارون له: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77]، ويقول – صلى الله عليه وسلم -: ((ليس خيرُكم مَن ترَك دنياه لآخرته، ولا آخرتَه لدنياه، ولكن خيرُكم مَن أخذ من هذه لتلك))، ويقول – تعالى – في سورة الأعراف: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 31 – 33].
نزَلت هذه الآيات لما جاء بعضُ المسلمين لرسول الله يريدون التقرُّبَ إلى الله بتحريم النساء عليهم، وطيِّبِ اللباس والطعام، مع دوام القيام والصيام، فنهاهم الرسولُ عن ذلك، وقال لهم: ((أما أنا، فأصومُ وأُفطِر، وأقوم وأنام، وأتزوَّج النساء، فمَن رغِب عن سنتي، فليس مني))، وفي بعض الآثار: ((لا رهبانيةَ في الإسلام))، وفي بعضها الآخر: ((إن لبدنِك عليك حقًّا، وإن لزوجِك عليك حقًّا))، وفي مثل هذه المعاني وتوكيدها جاء قوله – تعالى – في سورة المائدة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾ [المائدة: 87، 88].
ولم يقتصر القرآن الكريم في هذا المجالِ على نهيِه الإنسانَ عن تحريم ما خلَق الله له وأحله، بل وردت آيات أخرى صريحة في الأمر بالأكل والشُّرب واستعمال الطيبات، لإدراك معنى نعمة الله فيها، والإحساس بفضله وكريم عطائه؛ حتى ليتكلم علماء الأصول في هذا الأمر الصريح للوجوب هو أم للإباحة؟ وذلك مثل قوله – تعالى – في سورة البقرة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 172، 173]، وفي نفس السورة الكريمة: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 168]، وفي سورة النحل: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾ [النحل: 114، 115]، وفي سورة الأنعام يذكر اللهُ الأنعام؛ إبلها وبقرها وغنمها، في أسلوب رائعٍ واضح مطول من السَّبْر والتقسيم: ﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ﴾ [الأنعام: 143]، ﴿ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ﴾ [الأنعام: 144]، ناعيًا على أهل مكَّةَ ضلالَهم؛ حيث شرَعوا بغير علمٍ تحريمَ كثير منها تحت ظروف خاصة، وتحت ألقاب خاصة؛ من البَحِيرة والسَّائبة والوَصِيلة والحَامِ، مستهلاًّ هذا البيان بقوله – تعالى -: ﴿ وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [الأنعام: 142]، خاتمًا هذا البيان الواضح بقوله لرسوله: ﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾ [الأنعام: 145].
ثم عاود القرآنُ الكريم ذِكْرَ الأنعام مشيرًا إلى بعض منافعها الأخرى من الألبان والجلود والدفء، واتخاذ الأثاث من أصوافها وأوبارها وأشعارها، وحملها الأثقال، مضيفًا إليها ذكر الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة، وذكر النحل وعسلها الذي فيه شفاء للناس، وذكر النخيل والأعناب، نتخذ من ثمرها سَكَرًا ورزقًا حسنًا؛ وذلك كله في سورة النحل؛ حيث يقول – سبحانه -: ﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 5 – 8]، إلى أن يقول: ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 66 – 69]، وفي نفس السورة أيضًا: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ﴾ [النحل: 80].
ثم عاود القرآنُ الكريم ذِكر الأنعام كرة أخرى في سورة “المؤمنون”، مقرونًا ذكرها بذكر الفُلك؛ للشَّبَه والمناسبة بينهما؛ فالجَمَلُ سفينة الصحراء، والفُلك سفينةُ البحار؛ فقال – سبحانه -: ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾ [المؤمنون: 21، 22]، وقريب من هذا المعنى وهذه العبارات في سورة غافر.
وكثيرًا ما نرى الله – تعالى – يذكُر في كتابه الكريم من الكائنات والمخلوقات علويها وسفليها على أنها زينةٌ ومتاع وبهجة، ورزق ومعيشة، وحلية ومأكل، ومشرب وملبَس ومسكن، فيقول في سورة الحجر: ﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ [الحجر: 16 – 22]، ويقول في سورة “ق”: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ [ق: 6 – 11]، ويقول في سورة الملك: ﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ﴾ [الملك: 5]، وفي سورة الصافات: ﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ﴾ [الصافات: 6، 7]، وفي سورة فاطر: ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [فاطر: 12]، وفي سورة عبس الإشارة إلى طعام الإنسان وطعام أنعامه: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾ [عبس: 24 – 32]، وله نظير في سورة النازعات: ﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾ [النازعات: 27 – 33]، والمفاضلة بين الحدائق والثمار والطعوم والمذاقات يذكرها اللهُ في سورة الرعد: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [الرعد: 4]، ويركز على بهجة الحدائق كرة أخرى في سورة النمل، فيقول – سبحانه -: ﴿ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا ﴾ [النمل: 60].
عدد عديد من النصوص القرآنية المصرحة في مقام خَلق الأشياء بألفاظ الأكل والشُّرب، واللباس والمتاع والزينة والبهجة والحِلية والشفاء والرزق والجمال والمنافع، مما لا يمكن أن يمارسَه ويزاوله وينفعل به وبفائدته في نهاية أمره غيرُ الإنسان، إنسان عين الوجود، وبيت قصيده، وغاية الغايات منه وفيه، وفي ذلك من الدلالة على ما ادعيناه ما يكفي ويشفي، وكان سببًا في أن علماء أصول الفقه الإسلامي أطلقوها قاعدةً يكاد يجمع عليها الجميع، يقولون فيها: “الأصل في الأشياء الإباحة”، فكل ما خلَق الله من شيءٍ مباحٌ للإنسان استعماله، والانتفاع به بأي وجه من وجوه الانتفاع ما لم يرِدْ نصٌّ آخر بتحريمٍ، لصالح الإنسان نفسه ومنفعته، وقد رأينا في كثيرٍ من الآيات السابق ذكرُها أنه – سبحانه – يذكُر التحليلَ موسعًا فيه على الأصل والقاعدة الشرعية، ثم يأتي بصيغة القصر والحصر ليحدِّد ويقصر التحريم على أشياء خاصة لملاحظة خاصة؛ كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أُهِلَّ به لغير الله، فيعطي القصرُ بمفهومه تحليلَ ما عدا المذكور فيه، فيحرُم تحريمُ ما حلَّل الله، كما يحرُم تحليلُ ما حرَّم الله، هذه كتلك، وذلك كله بجملته وتفصيله ناطقٌ بأن الإسلامَ دين الفطرة السليمة، ودين الإنسانية جميعها من كل لون وجنس وفي كل مكان وزمان، يوافيها بمتطلباتها ويتماشى مع رغائبها، ولا يحرمها من تطلُّعاتها، ولا يقف عقبة في طريق غرائزها بالكبت والحرمان والتضييق والعُسر والحرج؛ ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، ((إن الدِّينَ يُسرٌ، ولين يشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غلبه))، ((إن هذا الدِّين متينٌ، فأوغِلْ فيه برِفْقٍ))، ((إن المُنبَتَّ لا أرضًا قطَع، ولا ظهرًا أبقى)).
ومن قواعد علماء الفقه الإسلامي أنه إذا وجد شرع الله فثم المصلحة.
نعم، إن الإسلام لا يكبت الغرائز، وإنما يُعليها ويوجِّهها الوجهة الفاضلة، ويتسامى بها؛ مأكلاً ومشربًا وجنسًا، وغير ذلك من بقية الغرائز، الأمر الذي قرَّر علماء النفس أنه الموقف السديد الحكيم حيال الغرائز، فإن كَبْتَها خطرٌ وضرر، وربما يسبب لها الانفجار أو الفَناء أو التبديد، فيُحرَم الإنسان من فائدة خلقها فيه كطاقة يحفظ بها حياته، وينظِّم سلوكه، ويسدِّد خطاه بطريقة لا تحرمه منها، ولا تجعله مسيئًا لاستغلالها، وكذلك يكون انطلاق الغرائز بغير حدود ولا قيود ولا تنظيم ولا تنسيق خطرًا أو ضررًا على الإنسان؛ حيث يصير بذلك أقربَ إلى البهائم والحيوانات منه إلى الإنسان الذي كرَّمه اللهُ وجعَله سيِّدَ الكائنات.
وهكذا تُبرهِنُ تعاليم الإسلام في أكثر المناسبات على أنها أبدًا أسمى التعاليم، وأقربُها إلى الفطرة السليمة؛ ﴿ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30].
إرسال تعليق