في أروقة العدالة، حيثُ تُسبر أغوار النفوس وتُوزن الأفعال بميزان الحق، سطعت قضية الطفل ياسين لتُلقي بظلالها القاتمة على ضمير المجتمع. جريمة بشعة، استباحت طفولة غضة، وأشعلت نار الغضب في قلوب الأمهات والآباء.
دعونا نتأمل هذه القضية من منظور القانون والإنسانية والمجتمع، لنستجلي الحقائق ونستشف العبر.
أولًا: تحت مظلة القانون.. سطور تُنطق بالعدل ⚖️
في المحكمة الابتدائية، صدر الحكم في حق المتهم، صبري كامل جاب الله، بالأشغال الشاقة المؤبدة.
لماذا ليس إعدام؟ المحكمة عدّلت وصف الجريمة إلى "هتك عرض بالتهديد والقوة"، وأقصى عقوبة لهذه الجريمة في القانون المصري هي السجن المؤبد المشدد (المادة 268 من قانون العقوبات).
هل الحكم نهائي؟ لا يزال بإمكان محاميّ المتهم الطعن على الحكم أمام محكمة النقض خلال ستين يومًا.
ما هي قصة ياسين؟ قضية هتك عرض الطفل ياسين، ذي الخمسة أعوام، هزت مصر في عامي 2024 و2025.
ياسين.. زهرةٌ ذابلة في مهْد الحياة:
طفلٌ لم تتفتح براعم وعيه بعد، وجد نفسه في مواجهة وحشٍ كاسر. والدته الفطنة لاحظت تغيرًا طرأ على سلوكه؛ خوفٌ مُستجد من دخول دورة المياه، ونفورٌ من الذهاب إلى المدرسة. وبعد إلحاح الأم، انهار الطفل الصغير ليُفصح عن الاعتداء الجنسي المتكرر الذي تعرض له داخل أسوار المدرسة الآمنة.
المتهم.. ذئبٌ في ثياب حمل:
صبري كامل جاب الله، شيخٌ جاوز التسعين من عمره، كان يشغل منصب المراقب المالي بالمدرسة. التحقيقات كشفت عن استدراجه الخبيث للطفل إلى دورة المياه وأماكن أخرى داخل المدرسة، حيثُ ارتكب فعلته الشنيعة بالقوة. ولم يقتصر الأمر عليه وحده، بل ساعدته عاملة نظافة في استدراج الضحية. وبلغت الخسة مداها بتهديد الطفل بالقتل إن باح بسره.
الأم المكلومة.. ورحلة البحث عن العدل:
بعد أن استبان لها الأمر، توجهت الأم إلى مديرة المدرسة، لكنها – وفقًا لأقوالها – قوبلت بتسترٍ وتقليلٍ من شأن الواقعة. لم تجد الأم بُدًا من اللجوء إلى القانون، فحررت محضرًا ظل حبيس الأدراج لمدة عام وشهرين، وجرى حفظه مرتين! ولكن بفضل إصرار الأم، والضغط الإعلامي والشعبي، أُعيد فتح التحقيق وأُحيلت القضية إلى النيابة العامة.
وأخيرًا، كان لتقرير الطب الشرعي الكلمة الفصل. الطبيب المُختص، الذي فحص جسد ياسين الصغير، أقر بوجود توسعات في فتحة الشرج تُشير إلى وقوع إيلاج. كما أدلى الشهود من داخل المدرسة بشهاداتهم التي عززت من أدلة الإدانة.
يبقى الأمل معقودًا على محكمة النقض لتأييد الحكم، ليكون عبرةً لمن تسول له نفسه ارتكاب مثل هذه الجرائم البشعة، وليتحقق بذلك أهم أغراض العقوبة وهو الردع العام.
ثانيًا: نبض الإنسانية.. قصة أمٍّ هزمت الخوف
هنا تتجه نظرتنا إلى بطلة هذه القصة، والدة ياسين الشجاعة. امرأةٌ أبت أن تُغلق هذا الملف خوفًا من "الفضيحة" المزعومة، ولم تخشَ نظرات المجتمع. مضت عامًا وشهرين تركض وتسعىٰ هنا وهناك، باحثةً عن حق ابنها الضائع، تطرق كل الأبواب الممكنة.
حقًا، يجب أن ننحني إجلالًا وتقديرًا لهذه الأم العظيمة. فشجاعتها وقوتها ستُحدث تغييرًا جذريًا في مجتمعنا، وستُلهم الكثيرين للسير على خطاها، مما سيؤدي إلى تحولات إيجابية عديدة.
وتحية خاصة لفكرتها النيرة بأن يحضر ياسين جلسة المحكمة مُرتديًا قناع سبايدر مان. خطوة ذكية لحماية طفلها من أعين الصحفيين والفضوليين، والحفاظ على حالته النفسية حاضرًا ومستقبلًا.
ثالثًا: عين المجتمع.. رفضٌ للفتنة وتأكيدٌ على العدل
حاول البعض استغلال هذه القضية لإشعال فتنة طائفية بين المسلمين والمسيحيين، بحجة أن أغلبية طلاب المدرسة من المسيحيين. ولكن القانون، بقواعده العامة المجردة، لا يُفرق بين مسلم ومسيحي، وإنما يُفرق بين الجاني والضحية. فمسألة اختلاف الطوائف لا علاقة لها بالجريمة في حد ذاتها. ولو قُدّر للعكس أن يحدث، لتم تطبيق نفس العقوبة دون أدنى تمييز. فالقضاء المصري مشهود له بالشفافية والنزاهة.
بقلم المستشار / محمد أحمد الإمام
إرسال تعليق