بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن لكل أمة أمكنة مخصوصة لعبادتها، وشعارًا لأديانها، فلليهود والنصارى البيع والكنائس والصوامع، لا تصلح صلاتهم الخاصة إلا فيها، أما أمة محمد عليه الصلاة والسلام فهي أفضل الأمم، كما أن رسولها أفضل الرسل، فوضع الله عن هذه الأمة الأغلال والضيق والحرج، مصححًا صلواتهم في كل مكان عدا ما استثناه الشرع، كالأرض النجسة والمقبرة والطرق ومعاطن الإبل والحمام؛ قال – صـلى الله عليه وسلم -: (أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي، -وذكر منها- وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل). وقد شرع الله تعالى بناء المساجد في المدن والقرى ومكان التجمعات؛ لتكون شعيرة من شعائر الإسلام، ومكان عبادة وبيتًا خاصًّا لله تعالى، لا يشوبه شائبة من أغراض الدنيا، يتجمع فيه المسلمون في ظل عقيدتهم وإيمانهم في رحبة من رحاب الله، يرفعون أيديهم مكبرين في صف واحد، خلف إمام واحد، يتلو كتابًا واحدًا، ويناجون ربًّا واحدًا، متكاتفين متعاونين، وإن اجتماع أبدانهم علامة وسبب لاجتماع القلوب.
ولأهمية المساجد وشرف مكانتها وعلو منزلتها، حثت الشريعة الإسلامية على بنائها وعمارتها حسيًّا ومعنويًّا، وجعلت الخير الكثير لبانيها، ووضعت على قبول عمل معمرها وبانيها علامات وإمارات ودلالات؛ لإدراك هذا الفضل الكبير والخير العميم قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾[6] ونفت الثواب المدخر عمن بناها وهو مشرك أو لم يرد بها وجه الله، قال تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ ﴾[7]، وقال – صـلى الله عليه وسلم – مبينًا ما أعد الله تعالى لباني المساجد ابتغاء وجه الله لا رياء ولا سمعة، كما في الحديث المتفق عليه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن الرسول – صـلى الله عليه وسلم -: (من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا مثله في الجنة). وفي الحديث الآخر بيان بأن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملًا قليلًا كان أو كثيرًا مما يتصل بعمارة المساجد بما يصونها ويريح المصلين ويحفظ كرامتها من إنارة وفرش؛ قال – صـلى الله عليه وسلم -: (من بنى مسجدًا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة)، وقال في تنظيفها: (عرضت علي أعمال أمتي فوجدت محاسنها ومساوئها، ووجدت من محاسنها القذاة يخرجها الرجل من المسجد، ووجدت من مساوئها النخاعة في المسجد لا تدفن). وحك – صـلى الله عليه وسلم – النخاعة من المسجد وذر عليها الزعفران.
وكانت امرأة تخدم المسجد، فماتت فدفنت، فلما جاء خبرها الرسول – صـلى الله عليه وسلم – قال: (دلوني على قبرها، فدلوه فصلى عليها، ثم قال: إن هذه القبور ملئت نورا بصلاتي عليها)، فهذا دليل كبير على فضل عمارة المساجد وتنظيفها، ولكل أجره حسب عمله واحتسابه سواء كان موظفًا عليها من جهة الدولة، أم من جهة متبرعٍ، ومعلوم أن القائمين عليها بالوظيفة تكون مسئوليتهم أعظم، فإن قاموا بعمارتها وتنظيفها فقد أدوا أمانتهم ونصحوا لأمتهم ودولتهم ولهم الأجر من الله تعالى إذا احتسبوا، وإذا لم يحتسبوا برئوا من المسؤولية الدنيوية فقط، قال تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾[8] فلما ضرب الله تعالى المثل: مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقدة من زيت طيب، وذلك كالقنديل مثلا، ذكر محلها وهي المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله في الأرض وهي بيوته التي يعبد فيها ويوحد؛ قال تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾[9] أي: أمر الله تعالى بتعاهدها وتطهيرها من الدنس واللغو والأقوال والأفعال التي لا تليق بها، وبين الله تعالى أنها كما تعمر حسيًا تعمر معنويًا بذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن، والتسبيح، والتحميد، والتهليل، وتكرار المجيء إليها؛ لأداء الصلوات المكتوبة مع الجماعة، ثم بين أهل هذه العمارة ووصفهم بصفات تميزهم عن غيرهم بأنهم رجال من أهل الهمم السامية، ومن أهل النيات والعزائم العالية التي بها صاروا عمارًا للمساجد التي هي بيوت الله في الأرض ومحل عبادته، وشكره، وتوحيده، وتنزيهه، فقال تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾[10] فلم يعب الله من اتجر والتمس المعيشة؛ لكي يتقوى بها على طاعته، بل مدح هذا وأثنى عليه وعلى سعيه، أما الذم فمتوجه إلى من شغلته تجارته ووسائل الحياة الدنيوية عن ذكر الله تعالى، وأبعدته عما خلق له، أو ما أوجد من أجله، بل صيرته تجارته واشتغاله بدنياه عابدًا لها بعد أن كان عابدًا لخالقه ورازقه.
فكن من هؤلاء الرجال الذين أثنى الله تعالى عليهم وليكن الخوف بين عينيك من اليوم الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار؛ ليقصر جماحك عما فيه هلاكك ودمارك، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾[11]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني و إياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم..
________________________________________
[1] سورة التوبة، الآية [18].
[2] سورة النور، الآية [36].
[3] سورة التغابن، الآية [17].
[4] سورة الزلزلة، الآية [7-8].
[5] سورة الأنبياء، الآية [47].
[6] سورة التوبة، الآية [18].
[7] سورة التوبة، الآية [17].
[8] سورة النور، الآية [36].
[9] سورة النور، الآية [36-37].
[10] سورة النور، الآية [36].
[11] سورة التوبـة، الآية [18].
إرسال تعليق