ضمن فعاليات معرض الدوحة الدولي للكتاب..
ندوة "من النقش إلى الكتابة" تستعرض مراحل تطور الكتابة عبر التاريخ
الاحساء
زهير بن جمعه الغزال
تضمنت فعاليات معرض الدوحة الدولي للكتاب في دورته الـ 34 ندوة حملت عنوان الشعار الرسمي للمعرض "من النقش إلى الكتابة"، والتي سلطت الضوء على رحلة الكتابة الإنسانية منذ بداياتها قبل ستة آلاف عام، مرورًا بمراحل تطورها المتعاقبة، وصولًا إلى الثورة الرقمية التي أعادت تشكيل مفاهيم النشر والمعرفة في العصر الحديث.
أدار الجلسة الدكتور مقبل التام الأحمدي، رئيس وحدة التحرير بمعجم الدوحة التاريخي، الذي استهل الحديث بتأكيد أهمية المعرض كمنصة ثقافية تجسد رؤية دولة قطر في تعزيز الحوار بين الحضارات، مشيرًا إلى أن اختيار شعار "من النقش إلى الكتابة" يأتي ليرسم خريطة زمنية تربط بين جذور المعرفة الإنسانية ومستقبلها. وقدم الأحمدي الضيفين الرئيسيين للندوة، وهما الباحث في تاريخ حضارات المشرق العربي الدكتور محمد حرب فرزات، ومحمد همام فكري مستشار التراث والكتب النادرة بمؤسسة قطر للتربية والعلوم، اللذان قدما قراءات معمقة في تاريخ الكتابة وتأثيرها على تشكيل الهوية الثقافية.
وفي ورقته البحثية، استعرض الدكتور محمد حرب فرزات المحطات الرئيسية التي مرت بها الكتابة منذ أن بدأ الإنسان نقش رموزه على الصخور، واصفًا إياها بـ "ثاني أهم اختراع في التاريخ بعد اكتشاف النار". وأوضح أن الكتابة لم تكن مجرد أداة لتسجيل الأحداث، بل كانت نقطة تحول جوهرية في بناء الحضارات، حيث مكّنت الإنسان من نقل المعرفة عبر الأجيال، وقال: "الكتابة هي الطاقة التي حررت فكر الإنسان من قيود الزمان والمكان، فتحولت الإشارات البدائية إلى نظام متكامل قادر على حفظ الفلسفات والأدبيات وحتى القوانين".
واستعرض د. فرزات تاريخ الكتابة والتطور الإنساني الفكري من زمن بعيد إلى اختراع وسيلة لتسجيل الكلام وتنظيم الكتابة ما أدى إلى الوصول إلى الطباعة وإلى وجود الكتاب وانتشار الثقافة، مؤكداً أن ثمرة هذا التطور يعكسها الآن معرض الدوحة الدولي للكتاب، وجميع المعارض على مستوى العالم ومختلف المكتبات التي تحتفظ بالكتب، وهي ثمرة هذا التطور الحاص في هذا الشأن.
توقف فرزات عند دور اللغة العربية في الحفاظ على الهوية الثقافية، معتبرًا أنها "لغة عظمى" بفضل ثرائها اللغوي والمفاهيمي، لكنه أشار إلى مفارقة تُقلقه: "نسبة كبيرة من مفردات العربية تُهمَل في حياتنا اليومية، رغم أنها كنز يعكس عمق تاريخنا". ودعا إلى ضرورة إعادة إحياء هذه المفردات، خاصة في ظل ما وصفه بـ "الحرب الثقافية العالمية" التي تهدد الخصوصية اللغوية للأمم. كما ربط بين ازدهار الحضارات واستقرارها، موضحًا أن "الكتابة وُلدت في أحضان المجتمعات المستقرة، حيث وجد الإنسان الوقت والمساحة للتفكير والإبداع"، مستشهدًا بحضارات بلاد الرافدين ومصر القديمة التي طورت أنظمة كتابية متقدمة.
ومن جهته، قدم همام رحلة موازية تتعلق بتاريخ الطباعة والتحول الرقمي، مستندًا إلى خبرته في إدارة المخطوطات النادرة بمكتبة قطر الوطنية. مستعرضًا كيف تحولت الكتب من مخطوطات يدوية نادرة إلى سلعةٍ متاحة بفضل اختراع الطباعة، وقال: لو لم تُخترع المطبعة، لظل الكتاب حكرًا على النخبة، ولما وصلت المعرفة إلى عامة الناس.
وأضاف أن الثورة الرقمية الحالية هي امتداد لتلك الثورة الطباعية، لكنها أكثر تأثيرًا، إذ حوّلت الكتاب من كيان مادي إلى كيانٍ افتراضي لا يعترف بالحدود، مشيرًا إلى أن "النسخة الرقمية يمكن أن تصل إلى ملايين القراء في لحظات، وهو ما كان مستحيلًا قبل قرن من الزمان".
كما كشف فكري عن جهود مكتبة قطر الوطنية في تحويل المخطوطات النادرة إلى نسخٍ رقميةٍ، مؤكدًا أن هذا التحول "ليس ترفًا تقنيًا، بل ضرورةً لحماية التراث من الضياع"، خاصة في ظل الأزمات التي تشهدها المنطقة. كما تطرق إلى تاريخ الطباعة في قطر، موضحًا أن حب القطريين للكتب يعود إلى قرون قبل ظهور المطابع، قائلًا: كانت الكتب تُنسخ يدويًا، ويتناقلها الناس في المجالس كهدايا ثمينة، حتى إن البعض كان يُوصي الزملاء أو الأقارب بجلب كتب محددة من رحلاتهم خارج البلاد. وأشار إلى أن مدينة الزبارة التاريخية كانت إحدى الحواضر الثقافية في القرن الثامن عشر، حيث ازدهرت المجالس الأدبية التي ضمّت علماء وشعراء تناقشوا فيها قضايا الفقه والأدب.
وأختتمت الندوة باتفاق المُتحدثان على أن معرض الدوحة للكتاب – من خلال شعاره – يُجسد استمرارية الحضارة الإنسانية، حيث تُمثل الكتب حلقة وصل بين إرث الأجداد وتطلعات الأحفاد. وأكد الدكتور فرزات أن "المعرض ليس مجرد مكان لبيع الكتب، بل هو احتفاء بالعقل البشري الذي انتصر على النسيان عبر اختراع الحرف"، بينما رأى فكري أن المبادرات الرقمية التي تتبناها قطر، مثل تحويل المخطوطات إلى نسخ إلكترونية، "تُعيد تعريف مفهوم المكتبة، فلم تعد جدرانًا تحوي أوراقًا، بل منصات مفتوحة للعالم أجمع".
إرسال تعليق