"فلسفة النجاة والوهم: قراءة في فيلم Cast Away"
بقلم ا.د إبراهيم محمد مرجونة
أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية
نظرة تأملية بها وقفات حول فيلم ( Cast Away) فهو فيلم دراما أمريكي صدر عام 2000م من إخراج روبرت زيمكيز وبطولة توم هانكس
دعونا نتأمل سويا ففي لحظة مفاجئة، يتحطم كل ما نعرفه، ويجد الإنسان نفسه خارج الزمن، خارج المجتمع، وخارج ذاته القديمة. فيلم Cast Away لا يُحكى كمجرد سرد لنجاة رجل من كارثة، بل كرحلة فلسفية عن الإنسان حين يُجبر على أن يرى نفسه في مرآة الصمت والعزلة. ما الذي يجعلنا نحيا؟ ما الذي يدفعنا للمقاومة؟ هل الحب دافع أم وهم؟ وهل تستحق العودة ما بذلناه لأجلها؟
هذه الأسئلة ليست ترفًا فكريًا، بل هي نواة التجربة التي خاضها "تشاك نولاند"، المهندس الذي تحول إلى ناجٍ، ثم إلى غريب، ثم أخيرًا إلى إنسان آخر.
العزلة كاختبار وجودي:في الجزيرة، يُجرد الإنسان من هويته الاجتماعية. لا اسم له إلا أمام البحر، لا وظيفة، لا جمهور، لا أهداف مستقبلية. هنا، يصبح كما وصفه جان بول سارتر: "محكوم عليه بالحرية". الحرية المطلقة هي عبء، لا نعمة، حين لا يوجد من يحدد لك ماذا تفعل أو من تكون.
فالعزلة هنا ليست فقط جغرافية، بل وجودية: صمت لا يرد، زمن لا يقاس، ذات تواجه ذاتها بلا وسائط. هذا النوع من التجريد، كما أشار إليه مارتن هايدغر، يضع الإنسان في مواجهة "القلق الوجودي" الذي ينبع من الشعور بأن لا شيء ضروري، وأن العالم غير معني بك.
وهنا تظهر الشخصية الافتراضية"ويلسون" ومعها صناعة المعنى من الفراغ
حين رسم وجهًا على الكرة وسماها "ويلسون"، لم يكن هذا مجرد تفريغ للجنون، بل فعلًا وجوديًا عميقًا: إبجاد الآخر. الإنسان لا يحتمل العزلة المطلقة، فيبتكر صوتًا يرد عليه، صديقًا يصدّق مخاوفه، حضورًا وهميًا يملأ فراغ الغياب.
"ويلسون" هو رمز الحاجة الماسة للحوار، حتى وإن كان متخيّلًا. هو تمثيل لفعل كامو حين كتب: "في عالم خالٍ من المعنى، لا بد من تمرد الإنسان عبر صنع المعنى"، وهذا بالضبط ما فعله البطل: اختلق ذاتًا مقابلة كي لا يتفكك.
أما عن الحافز الزائف والحقيقة الصادمة: فكانت صورة زوجته – الحبيبة الغائبة – محرّكه، الوهم الذي منح لكل يوم معنى. لم يكن يعلم أنها مضت، لكنه آمن بوجودها على الطرف الآخر من الألم. وهنا تكمن المفارقة: الإنسان يصنع من التعلق سببًا للنجاة، رغم أن الحياة تمضي دون أن تنتظره.
حين عاد ووجدها وقد تزوجت، اصطدم بالحقيقة القاسية: ما جعله حيًا، لم يكن حقيقيًا. هذا يذكرنا بما قاله نيتشه: "نعيش من أجل أكاذيبنا الجميلة". لم تكن الزوجة بحد ذاتها سبب النجاة، بل ما تمثله من أمل وحب وذاكرة.
وهنا يظهر مغزى عميق: لا ننجو لأن هناك من ينتظرنا، بل لأننا نريد أن نُنتظر. نحتاج أن نؤمن أن هناك مكانًا نعود إليه، حتى وإن كان ذلك المكان خياليًا.
وهنا تتجلى عبثية التوقع وأخلاقية النجاة ففي العودة، يواجه البطل "عبثية" الحياة، لا بمعناها العدمي، بل كما صاغها ألبير كامو: أن يستمر العالم في غيابك وكأنك لم تكن. الأصدقاء مضوا، الزوجة تزوجت، الشركة تابعت أعمالها.
وهنا يتجلى سؤال أخلاقي: هل من حقنا أن نتوقع من العالم أن ينتظرنا؟ وهل الوفاء يرتبط بالحضور، أم بالذاكرة؟ الإجابة مؤلمة: العالم لا يدور حولنا، حتى وإن كنا محور ذواتنا.
ولكن، هل يعني ذلك أن مقاومته كانت عبثية؟ أبدًا. لأن في تلك اللحظات، لم يكن يقاوم من أجل الآخرين، بل من أجل بقائه الشخصي. النجاة ليست التقاء بآخر، بل إثبات الذات أمام الطبيعة، أمام الألم، أمام الموت.
وما مضى والتجارب والخبرات لابد وأن تجعل هناك ولادة الإنسان الجديد وهذا ما حدث بالفعل في المشهد الأخير، لا يعود البطل إلى حياته، بل يختار طريقًا جديدًا. يقف في مفترق طرق، دون أن نعرف أي جهة سيأخذ. لكنه الآن إنسان آخر: لا يحمل أوهامًا، لا ينتظر أحدًا، لا يقاتل من أجل ذكرى، بل من أجل نفسه.
هذه هي ذروة التحول الفلسفي: أن تنجو من أجل ذاتك، لا من أجل مكافأة. أن تعيش لا لأن العالم يتذكرك، بل لأنك أنت من يستحق الحياة.
لا تبحث عمّن لا يبحث عنك – ولكن استمر
في النهاية، لا يقول الفيلم: "لا تحب"، أو "لا تنتظر"، بل يقول: اصنع من وهمك معنى، لكن لا تنسَ أنه وهم. قاوم، تمسك، ابكِ، تذكّر – لكن لا تجعل كل ذلك مرهونًا بوجود الآخر. عش، لأن الحياة تستحق أن تُعاش، لا لأنها تُكافأ دائمًا.
نكافح كي لا نُمحى. وكل ما نفعله، من رسم وجه على كرة، إلى ركوب قارب خشبي في المحيط، هو إعلان صامت: "أنا ما زلت هنا" ،"أنا ما زلت هنا".
إرسال تعليق