مقال بعنوان: وهم المظلومية
بقلم ا.د إبراهيم محمد مرجونة
في زوايا النفس البشرية، حيث تتوارى الحقائق خلف ظلال الرغبات والذكريات، تولد شخصية تتجاوز المألوف، لا تشبه الإنسان العادي، بل تتماهى مع أطياف من الخوف، والعزلة، والتمزق الداخلي. هناك، في هامش الوعي، تنشأ كينونة مبهمة، تستمد وجودها من العداوة المتخيلة والمظلومية المصطنعة، وكأنها ضرورة وجودية تملأ فراغ الذات وتبرر ملامحها.
هذه الشخصية تبدو كأنها خرجت من رواية "على هامش السيرة" لطه حسين، حيث يختلط الواقع الصارم بالخيال الهش، فتتغير ملامح البطل بين من يسكن ظاهر السكينة ومن يخلق لنفسه أعداءً ليشعر بأنه موجود. وكأن الوجود ذاته لا يُحتمل دون خصم أو عدو، حتى لو كان من صنيع الخيال.
في عمق هذه النفس، ثمة فراغ ينخر في جدرانها، وشكوك تنهش أركانها، فتتخذ من المظلومية درعًا تحتمي به من مواجهة حقيقتها. كما قال دوستويفسكي: "أعظم ما يخيف الإنسان هو أن ينظر إلى داخله." لكن هذه الشخصية لا تنظر، بل تختلق صورة مرآة مشوّهة، ترى فيها مؤامرات تحيط بها من كل جانب، وتُسقط على الآخرين ظلال خوفها الداخلي.
هذا النوع من العداء ليس فعليًا، بل هو مشروع نفسي، تبريري، يتضخم مع كل إحساس بالخذلان أو النقص. كما رأينا في السلطانة خُرَّم، زوجة سليمان القانوني، التي صنعت أعداءً وهميين لتثبيت نفوذها، فانتهى بها الأمر إلى شبكة من المؤامرات أكلت من نفوذها وأوهنت موقعها داخل البلاط العثماني.
تشبه هذه الشخصية “رابح الوهم” في قصص خورخي لويس بورخيس، الذي طارد سرابًا حتى تحول إلى أسير في قصر من زجاج وهْم. إنها ليست شخصية مريضة وحسب، بل متقنة لفن التلاعب بالعواطف، تقتات من وهم الألم وتجعل من نفسها ضحية سامقة لا تُقهر. لكنها في الحقيقة سجان صارم لنفسه، يحبسها داخل قفص من الحكايات الزائفة التي تُروى كي لا يُرى الضعف.
وهذا الضعف تحديدًا، هو بيت القصيد. كما قال نيتشه في تأملاته: "الوحدة العميقة تخلق هشاشة قاسية." هذه الشخصية تمشي على حبل مشدود بين الحقيقة والوهم، تتأرجح بين حاجتها إلى اعتراف الآخرين بوجعها، وبين خوفها من انكشاف زيفه.
وفي قلب هذا الصراع، لا بد أن نستحضر مقولة سارتر الخالدة: "الجحيم هو الآخرون". لكن الجحيم هنا لا يأتي من الآخر، بل من الذات حين ترى في الآخر مرآةً تهدد استقرار وهمها. العالم يصبح عندها مسرحًا لمأساة مستمرة، حيث الناس أدوار في سيناريو لم يكتبوه، بل فُرض عليهم من عقل يحتمي بالخرافة النفسية ليبقى متماسكًا.
هذه الشخصية ليست محض كاذب أو متلاعب، بل إنسان ضائع يسأل -كما قال هايدغر- عن معنى وجوده، لكن بدلًا من المواجهة، يختار الهرب إلى وهمٍ يعيد إنتاج السؤال بصيغة جديدة: لماذا يعاديني الجميع؟
هذا السؤال، في جوهره، ليس طلبًا لفهم الخارج بل ترجمة لصراع داخلي، يفضّل أن يُخاض في الظلال. وهنا تتبدى أهمية الفهم لا الإدانة، والإصغاء لا الاحتقار، والتأمل لا التسرع في الحكم. كما قال المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي: "المعرفة الحقة تبدأ حين نتوقف عن الهرب من مرآة الذات."
في النهاية، هذه الشخصية التي صنعت من المظلومية والعداوة وهمًا يُسوِّغ وجودها، ليست مجرد حالة مرضية، بل مأساة إنسانية تحتاج إلى ضوء، إلى من يراها في عمقها، لا في سطح خطابها. إن فهمها لا يعني تبريرها، بل محاولة لفك شيفرة إنسانية عميقة، حيث الألم يتحول إلى لغة، والخيال إلى قيد، والذات إلى مسرح يسكنه الخوف، وتتجاور فيه الأشباح مع الحنين.
فربما، في لحظة صدق نادرة، تتوقف عن تمثيل دور الضحية، وتبدأ بكتابة سرديتها من جديد، لا بوصفها ضحيةً أو جلادًا، بل إنسانًا، يفتش، في زحمة هذا العالم، عن مكانٍ له، وعن صوتٍ يقول له: نراك.
يقول العم صلاح جاهين :
كلّ ما أقول: الباب اتقفل
يبان ضيّ نور في آخر الصف
أمدّ إيدي له.. أتلسع
أقول: يا دنيا.. ليه الكذب واللف؟
عجبي
إرسال تعليق