مقال بعنوان: مصير صرصار
بقلم ا.د ابراهيم محمد مرجونة
يقول صلاح جاهين:
"أنا اللي شايل هم الدنيا
وبضحك على وجهي الغريب
كل يوم أبدأ من جديد
وأكافح رغم التعب العجيب"وعجبي
في عمق مسرحية توفيق الحكيم "مصير صرصار" تكمن رحلة إنسانية تتجاوز حدود القصة البسيطة، رحلة صرصار صغير يحاول بلا كلل الهروب من حوض الاستحمام، لكنه يعود للسقوط مرارًا وتكرارًا. هذه الصورة التي تبدو طفولية، تحمل في طياتها عبثية الوجود الإنساني بكل مأساويته، حيث الإنسان يشبه سيزيف في معاناته الأبدية، يدفع صخرته بلا توقف، رغم إدراكه أن النهاية لا تغير شيئًا.
لكن ما وراء هذا الصرصار الذي لا يمل من المحاولة، قصة أعمق بكثير. مجتمع الصراصير الذي يفتقر إلى التعاون، يعيش كل فرد فيه لحسابه، في مقابل مجتمع النمل المنظم والمتكاتف. هنا يوجه الحكيم نقدًا لاذعًا للإنسان الحديث، الذي غرق في أنانيته، وابتعد عن التضامن الذي يمكن أن يصنع الفارق بين الهزيمة والانتصار. الصراصير، بكل فوضاهم، يرمزون إلى مجتمع هش، ضعيف، لا يملك من القوة إلا أوهامًا زائفة، كما هو حال القائد الملك الصرصار وهو دلالة عن كل من تولى قيادة وإدارة ويدير بلا موهبة حقيقية، محاطًا بوزير وكاهن وعالم لا يملكون سوى أسماء بلا فعل. مضاف إليهم مجموعة كبيرة من حاملي المباخر.
في هذا المشهد، تتجلى مأساة الإدارة الزائفة، التي تعتمد على المظاهر والادعاءات، لا على الحكمة أو الكفاءة، فتتحول إلى مسرحية عبثية بحد ذاتها، تعكس هشاشة الأنظمة والإدارات التي تعيش على وهم التفوق، لكنها في الحقيقة تفتقر إلى القوة الحقيقية.
أما الصراع الأزلي بين الرجل والمرأة، فيقع في قلب هذه القصة، حيث يصبح سقوط الصرصار في الحوض رمزًا لصراع لا ينتهي بين طرفين يحاول كل منهما فرض سيطرته، في معركة داخل "البئر" ذاتها، معركة تعكس معاناة الإنسان في علاقاته الإنسانية، حيث يغيب الحوار، ويحل مكانه القهر والتسلط.
ومع كل هذه المآسي، يبقى الكفاح المستمر هو السمة التي تميز الإنسان، فهو لا يستسلم رغم إدراكه أن النهاية واحدة، موت لا مهرب منه. هذا الإصرار على المحاولة، رغم السقوط المتكرر، هو ما يجعل الإنسان عظيمًا ومأساويًا في آن واحد، تمامًا كما الصرصار الذي لا ييأس من الخروج من الحوض.
"مصير صرصار" ليست مجرد مسرحية، بل هي مرآة تعكس مأساة الإنسان في مواجهة القدر والعبث، دعوة للتأمل في قيمة الكفاح والتعاون، وكشفٌ لهشاشة الإدارة القائمة على أوهام زائفة. بأسلوبها الساخر، وباستخدامها الرمزية الحيوانية، تفتح المسرحية آفاقًا متعددة للقراءة، من قصة بسيطة إلى نقد اجتماعي وسياسي عميق، مما يجعلها عملًا خالدًا يستحق أن يُقرأ ويُناقش في كل زمان ومكان.
إن قصة الصرصار في حوض الاستحمام هي قصة الإنسان ذاته، في كفاحه المستمر ضد عبثية الوجود، في بحثه والله الدائم عن معنى وسط الفوضى، وفي مقاومته التي لا تنتهي رغم كل السقوط. إنها دعوة للتأمل، وللأمل في عالم أفضل.
"مصير صرصار" ليس فقط قصة هزيمة، بل هو دعوة صامتة للثبات، وللإيمان بأن لكل كائن صغير أو كبير دورًا في صنع الحياة، وأن النور يولد من رحم الظلام. لذا، فلنحمل معنا هذا الأمل، ونؤمن بأن المستقبل يحمل دومًا فرصة جديدة للحياة والتجدد.
إرسال تعليق