مقال: العشم...رحلة في عوالم الانتظار .بقلم: ا.د إبراهيم محمد مرجونة

مقال: العشم...رحلة في عوالم الانتظار .بقلم: ا.د إبراهيم محمد مرجونة



مقال: العشم...رحلة في عوالم الانتظار .
بقلم: ا.د إبراهيم محمد مرجونة 

رباعيات صلاح جاهين عن العشم تعبر عن مزيج من الشوق والألم والحيرة في الحياة، وتظهر في أبيات مثل:

"أنا الذي عمري اشتياق في اشتياق
وقطر داخل في محطة فراق
قصدت نبع السم وشربت سم
من كتر شوقي وعشمي في الترياق"
عجبي!!!
هذه الرباعية تعكس حالة من العشم المؤلم الذي يتحول إلى سم بسبب الشوق والانتظار، وهو تعبير شعري عميق عن الألم الداخلي والعجز أمام الفراق والعلاقات الإنسانية.

العشم هو الكذبة الجميلة التي نستمر في تصديقها، رغم ما يفعله بنا العالم كل يوم. تلك النية الطيبة التي نضعها في يد الآخر دون قيد أو شرط، وننتظر، كأننا زرعنا شيئًا في تربة قلبه وسنحصده في موسم الرجاء. 

لا يولد الإنسان محصنًا من لهيب العشم، فهو ليس غفلةً ولا ضعفًا، بل هو نبض إيمانٍ خفيّ ينبثق من أعماق الروح. العشم، ذلك الوهم الجميل، هو إيمانٌ مرسومٌ على وجه بشرٍ، لا يُرفع إلى السماء، بل يُسكب في كؤوس البشر. وهنا، في هذه اللحظة الرقيقة، يكمن ألم القلب الأعظم: أن تزرع بذور ثقتك في تربة لا تنبت سوى الخذلان، وأن تطلب من بشرٍ لا يملك إلا ذاته، فتُصاب بالخذلان، فتسيل دموع الحزن على وجنتيك، كأنها مطرٌ لا ينتهي.


 العشم اختبار لقدرة القلب على التعلّق بما لا يُقال، وهو من الأفعال التي لا تُكتب في رسائل ولا تُنطق على لسان، بل تُعلَن بالصمت والانتظار وتلك النظرة المحمّلة بكل ما لا يُقال.

ربما كتب دوستويفسكي رواية "المساكين" بأكملها من أجل أن يقول لنا إن العشم أحيانًا يكون وسيلة الفقير ليظل إنسانًا. كل سطر من رسائل "فاريا" إلى ماكار هو نوع من العشم في قلب الحياة. لم تطلب مالًا، بل طلبت أن يشعر بها. أن يشعر أحد بوجودها. وهذا هو العشم في أنقى صوره: أن تطلب أن تُرى. كم من عشم بسيط تحوّل إلى كارثة حين لم ننتبه له، وكم من عشم كتمه صاحبه بصمتٍ جعل صوته أعلى من أي صراخ.

في لوحة نيكولا بوسان "العذراء الباكية"، لا تبكي السيدة العذراء على المسيح فقط، بل تبكي فينا عشم كل أم في خلاص، وكل عاشق في ردّ، وكل إنسان في معجزة صغيرة تنقذه من قسوة الأيام. وجهها في اللوحة لا يصرخ، بل ينتظر، ولهذا صار خالدًا. الفنّان يعرف أن أكثر المشاعر فتكًا لا تُعلن عن نفسها.

وحين غنّت فيروز "عندي ثقة فيك"، لم تكن تصف حالة حبّ، بل حالة عشم. الثقة التي لا تُبنى على منطق، بل على شعور داخلي بأن هذا الشخص بالذات... لن يخذل. ليس لأنه وعد، بل لأننا آمنّا بذلك. كم من مرة عشِمنا في صديقٍ، وفي حبيب، وفي أخ، وفي مدينة، وفي حلم، وفي وطن، وفي الله نفسه، ثم قيل لنا بلطف أو قسوة: لا تطلبوا ما ليس لكم.

لكن القلب لا يفهم منطق الحقوق. القلب يصدّق. والعشم هو صيغته في التصديق.

وليس عبثًا أن يكتب المتنبي: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته، وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا. إنه يصف العشم كما هو: رهان على طبيعة الآخر. الكريم لا يُخيّب الظن، لأنه لا يخذل نفسه. واللئيم، لا يراك أصلًا لتقول إنه خذلك.

العشم هو أن تنتظر اتصالًا لا يأتي، ويدًا لا تُمدّ، ووفاءً لا يحدث، وموقفًا لم يحدث أبدًا. لكنه، مع ذلك، ليس خطأ. أن تعشم يعني أنك لا تزال تؤمن. وأنك لم تصدأ داخليًا بعد. وأنك، رغم كل الخذلان، لم تصبح مثلهم.

كل من قال "العشم سمّ قاتل" كان مجروحًا ذات مرة، لكنه لا يزال يتعشم أن يُصدَّق حين يقولها.

نحن نُربّى على العشم في بيوتنا. في طبطبة الأم، في نظرة الأب، في الأصدقاء الذين يقولون لنا "لو احتجت أي حاجة كلمنا". ونحن لا نتصل، لكننا نعشم أن يظلوا يقصدون ما قالوه. في المجتمعات الشرقية، نحن لا نكتب تعاقدات للرحمة، نحن نعتمد على العشم. ولهذا حين يُخذل، تكون الضربة قاسية، لأننا نراهن على ما ليس مكتوبًا.

العشم هو أن تقول "أنا عشمان فيك" وأنت في داخلك تعرف أنه قد لا يفعل، لكنه لو لم يفعل... لن تنساه أبدًا.

في أشعار نزار قباني، كم من مرة كتب قصائد كاملة تبدأ بحبّ وتنتهي بخيبة، فقط لأنه عشِم في امرأة أن تكون وطنًا، ووجدها تقف على الباب وهي تسأله أن لا يكتب كثيرًا. العشم يحوّلنا إلى شعراء، لكنه أيضًا يذبحنا على حوافّ القصائد.

وفي الاخير ، لا ينجو أحد من أسر العشم، حتى أولئك الذين يلبسون ثوب التشاؤم ويرتدون درع الواقعية، يختبئ في صدورهم نور صغير من الرجاء، يهمس لهم بأن يأتي شخص واحد فقط... ليصدقهم بصدق القلب.
فالعشم هو قصيدتنا الإنسانية، ونشيدنا الصامت الذي يعلن أننا ما زلنا نملك من الطيبة ما يجعلنا نغامر، نراهن على سرابٍ لا يُرى، ونزرع بذور أمل في تربة مجهولة.

فإن عشِمت، فلا تخجل من قلبك، ولا تستكين للاعتذار، وإن خذلوك، فلا تنكسر كغصنٍ في عاصفة، بل كن كالجبال التي تحتضن السماء بصبرٍ لا ينفد. تذكّر أن العشم ليس ضعفًا، بل هو نبلٌ يتلألأ في عتمة الأيام، وأن بعض الأيادي لا تصل، ليس لقلة المحبة، بل لقصرها عن الامتداد.

اكتب تعليق

أحدث أقدم