الذكريات التي لم تحدث – تأمل فلسفي في الممكن الغائب
بقلم /آية محمود رزق
في زمنٍ تتكدّس فيه الوقائع على رفوف الحياة، في زمنٍ يُقاس فيه الوجود بما تمّ، ويُعرّف الإنسان بماضيه القابل للحصر، تنسى أرواحنا أن هناك شيئًا لا يُرى، لا يُدوّن، لكنه يُشعّ من أعماقنا كصوتٍ لا نعرف مصدره… إنّه ظل الذكريات التي لم تحدث. فكرة تبدو في ظاهرها غريبة، لكنها في حقيقتها أقرب إلينا من أسمائنا. ما لم يحدث لا يعني بالضرورة أنه لم يُوجَد، بل ربما عاش داخلنا بطريقة أخرى، بطريقة شعورية، رمزية، استباقية، أو حتى وهمية… لكنه عاش.
هل جربت يومًا أن تشتاق لشيء لا اسم له؟ أن تستيقظ من نومك بقلبٍ مثقل، دون أن تدري ما بك، وكأنك فقدت أحدًا لم تعرفه؟ أو شعرت فجأة أنك تعيش حياة ليست حياتك، وأن حياة أخرى كانت تنتظرك في زاوية ما من الزمن، ولم تأتِ؟ هذا ليس مجرد اضطراب نفسي أو نوبة حنين غامضة. بل هو أثر من "ممكنٍ" لم يتحقق، لكنه كان قريبًا، قريبًا جدًا، حتى كدتَ تلمسه ثم فلت. إنها الذكرى التي لم تولد، لكنها تركت أثر الميلاد.
هناك في وعي الإنسان مستوى عميق، لا يخضع للمنطق التقليدي، ولا للترتيب الزمني، إنه وعي "اللازمن"، حيث تتجول الأرواح بين ما كان وما لن يكون، وتتذوق طعم الندم على ما لم ترتكبه، وتبكي فُقدان ما لم تمتلكه، وتحزن على حبّ لم يبدأ، ولقاء لم يأتِ، ورسالة لم تُكتب. كيف يمكن لهذا أن يحدث؟ كيف نحزن على ما لم نعرفه؟ الجواب يكمن في أن الشعور لا يحتاج إلى واقع كي يكون حقيقيًا، إنما يحتاج إلى إمكان. والإمكان وحده، حين يكون عميقًا كفاية، يترك في القلب ندبة.
إننا نعيش في ثقافة لا تعترف إلا بما حدث. التاريخ لا يدوّن إلا الوقائع. العلم لا يعترف إلا بالمشاهد. والفكر السائد يطالبنا بأن "نتجاوز" كل ما لم يكن. لكن ماذا لو كانت هذه المنطقة – منطقة ما لم يحدث – هي الأعمق؟ ماذا لو أن وعي الإنسان لا يُشكَّل فقط من تجاربه، بل من تجاربه التي حُرِم منها؟ ماذا لو أن الإنسان ليس فقط ما فعله، بل أيضًا ما كان على وشك أن يفعله ثم لم يفعله؟ هل هناك ذاكرة للعدم؟ هل هناك أرشيف للفرص الموءودة، للأحلام المجهضة، للأزمنة البديلة التي لم تكتمل؟
قد يقول قائل: هذا خيال. لكنه خيال يقاوم منطق الاستبعاد، ويصر على أن الممكن له وجود لا يقل عمقًا عن المحقق. أفلاطون تحدّث عن عالم المثل، حيث الحقيقة تسبق التجسيد. وربما في هذا العالم، هناك نماذج لحيواتنا الأخرى، التي لم نعشها لكننا شعرنا بها. هيدغر تكلم عن القلق الوجودي، كصوت الكينونة وهي تبحث عن معناها… فهل يكون القلق أحيانًا هو تذكّر اللاحدث؟ ديكارت قال "أنا أفكر إذن أنا موجود"، لكن ماذا عن من يفكر في أشياء لم تحدث؟ أليس له وجود أيضًا؟ إن الفلسفة الكلاسيكية وقفت طويلًا أمام ما هو، لكنها نادرًا ما التفتت لما لم يكن.
هذه الورقة ليست مقالًا فقط، بل دعوة لفلسفة جديدة: فلسفة الممكن الغائب. فلسفة تقول إن الحزن على المفقود لا يشترط امتلاكًا سابقًا، وإن الشوق لا يستدعي معرفة، وإن القلب حين يئن، قد يئن من فقدٍ غير ملموس، من احتمالٍ مات قبل أن يولد. إنني أقترح هنا مصطلحًا: الفراغ المشاعري. وهو شعور غامض ينتاب الإنسان حين يشعر أن هناك شيئًا كان يجب أن يكون، ولم يكن. هو ليس فراغًا حقيقيًا، بل هو امتلاء مهدور، هو إحساس بأن في داخلك غرفة مغلقة، لم يطرق بابها أحد، لكنها موجودة، ويؤلمك وجودها الصامت.
هذا الفراغ قد يظهر في شكل حزنٍ لا سبب له. أو في شكل إيمان عميق بأنك كُنت يومًا شيئًا آخر، في زمن آخر. أو حتى في صورة علاقات تشعر معها بألفة لحظية وكأنكما تعرفتما منذ دهر، رغم أنكما مجرد غرباء. كلها إشارات على أن ما لم يحدث يترك أثرًا. بل أحيانًا يكون أثره أقوى من الحدث نفسه، لأن الأحداث يمكن تفسيرها وتبريرها، أما الاحتمالات فهي مفتوحة على اتساع الكون، على كل ما "كان من الممكن أن يكون".
نحن نخاف هذا الفكر لأنه يُخرجنا من وهم السيطرة. لأنه يقول لنا إن الواقع ليس الحاكم الوحيد للوجدان، وإن هناك أشياء تسكننا دون أن تجد لها مدخلًا في الحياة. لكنه فكر ضروري، لأنه يفتح لنا باب المصالحة. مصالحة مع ذواتنا غير المحققة، مع أحلامنا التي خانها الوقت، مع النسخ الأخرى منّا التي لم تتح لها الفرصة لتولد. أحيانًا، كل ما نحتاجه هو أن نقول لأنفسنا: نعم، أشعر بهذا، رغم أنه لم يحدث. نعم، أفتقده، رغم أنني لا أعرفه. نعم، هذا الوجع حقيقي، رغم أن لا أحد يمكنه رؤيته.
ربما تكون أعظم معارك الإنسان ليست تلك التي خاضها، بل التي خاف أن يخوضها. وربما أعظم أوجاعه ليست ما حدث، بل ما لم يُمنح فرصة ليحدث. وهذا المقال هو شهادة حضور لما هو غائب، صوت صغير في وجه سيل من الإنكار، واعتراف بأن للغياب أيضًا ذاكرة، وأن للفراغ شعورًا، وأن للسكوت تاريخًا، فقط إن أنصتنا إليه.
إرسال تعليق