بقلم \ الكاتب والمفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن شجاعةالاعتذار لا يتقنها إلَّا الكِبار، ولا يحافظ عليها إلا الأخيار، ولا يغذِّيها وينمِّيها إلَّا الأبرار.
فالاعتذار صِفة نابعة من قَلبٍ أبيضَ، لا يَحمل غشًّا، ولا يضمر شرًّا، ولا يتقن حقدًا.
إنَّه طريق ممهد للتوبة، وسبيل ميسر للأَوبة، ((كلُّ ابنِ آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون)).
فمَن عرَف خطأَه واعتذر عنه، فهو كبير في نَظر الكثير، والتماس الخير وسيلة، والرُّجوعُ إلى الحقِّ فضيلة؛ لذلك ما أجمَلَ أن تكون مسارعًا إلى الخير، رجَّاعًا إلى الحق! "لا تظن بكلمة خرجَت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير مَحملًا"، حتى قال الإمام الشافعي: "التمس لأخيك سبعين عذرًا".
فكم من أُسر تفكَّكَت! وكم من أواصِر تقطَّعَت! وكم من زيجات طُلِّقَت! وكم من أطفال شرِّدت! بسب عدَم القدرة على الاعتذار، بل يَنقلب الحال إلى خصومة شَديدة، وشحناء مديدة، قبل أن تؤثِّر في الآخرين تَقتل صاحبها كمدًا وعنادًا!
كلمة صَغيرة لا يتجاوز عدَد حروفها أربعة "آسف" ربَّما تُطفئ حربًا، وتمنع مَقتلة، رغم ذلك فإنَّ الكثيرين يَستثقلون نطقَها؛ تكبُّرًا أو أشرًا أو بطرًا؛ ظنًّا منهم أنَّ الاعتذار يقلِّل من قَدرهم، أو ينتقص مِن قيمتهم، أو ينال من مَكانتهم.
ونتيجة لهذا الظنِّ الخاطئ الذي يَحول دون اعتذار الإنسان عن خَطأ اقترفه؛ قد تُقطع أرحام، أو تتهدم بيوت، أو تنقطع أواصر، أو تتشرد أسر، تَنتهي المودَّة بين الزملاء، بل ربما تتحوَّل صداقة الأصدقاء إلى خصومة وجفاء؛ لأنَّ أحدهم أَبى واستكبر أن يعتذر!
إنَّ القوة كل القوة في الاعتراف بالخطأ والاعتذارِ عنه، بل إنَّ الاعتذار هو الخطوة الأولى على طَريق العودة إلى الحقِّ، حتى بين الإنسان وخالقِه، ومن شروط التوبة النَّصوح الإقرارُ بالذَّنب، ثم النَّدم عليه، والعزم على عدَم العودة لمثله أبدًا، ثمَّ الاستغفار عنه.
والإقرار بالذنب أو الخطأ يتجسَّد في الاعتذار لِمن أخطأنا في حقِّه وطلبِ الصَّفح منه، بل قد يَسبقه عودة الحقوق لأهلها، وإلَّا فالتوبة معلَّقة، فإذا ملكتَ شجاعة الاعتذار، فليس في ذلك أدنى انتِقاص من مكانتك، فأنت قادِر على تَصحيح مسارك دائمًا مَهما كانت درجة الانحراف عنه!
أمَّا مَن يأبى الاعتذارَ، فهو إنسان ضعيف، لا يستطيع أن يروِّض أهواءَ النَّفس، أو يلجم آفات الكبر، أو يحطِّم نزغات الشيطان؛ فتتمكَّن منه، وقد تنزلق به إلى العِناد في الباطل، الذي يورث الكفرَ والعياذ بالله.
وفي حياتنا اليوميَّة كثير من المآسي التي وقعَت؛ لأن كثيرًا منَّا لا يملك شجاعةَ الاعتذار لزوجته أو أخيه أو زميله في العمل!
وكثيرًا ما نسمع ونَرى عن أشقاء جفَّت بينهم مشاعر الأخوَّة؛ لأنَّ أحدهم يأنف أن يعتذر عن خَطأ اقترفه في حقِّ شقيقه.
وإن كان الاعتذار شجاعةً، فإن الصِّدق فيه صِفة لازمة، لا يتحقَّق إلا بها، كما أنَّ قبول الاعتذار شيمة الكرماء الذين يَعرفون قدرَ الشجعان...
ورَد عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام قوله:
((عفُّوا عن نِساء الناس تعف نساؤكم، وبرُّوا آباءكم تبركم أبناؤكم، ومَن أتاه أخوه متنصلًا، فليقبل ذلك منه محقًّا كان أو مبطلًا؛ فإن لم يفعل، لم يَرِدْ عليَّ الحوض)).
والإنسان في كلِّ نِزاع ينشب أحدُ رجلين؛ إمَّا أن يكون ظالِمًا، وإما أن يكون مظلومًا؛ فإن كان عاديًا على غيره، آخِذًا لحقِّه، فينبغي أن يُقلع عن غيِّه، وأن يصلح سيرته، وليعلم أنَّه لن يستلَّ الضِّغْنَ من قلب خصمه إلَّا إذا عاد عليه بما يطمئنه ويرضيه، وقد أمر الإسلام المرءَ - والحالة هذه - أن يستصلِحَ صاحبه، ويطيب خاطرَه؛ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن كانت عنده مَظلمة لأخيه من عِرض أو من شيء، فليتحلَّله منه اليوم، من قبل أن لا يكون دينار ولا دِرهم، إن كان له عمل صالِح أخذ منه بقدر مَظلمته، وإن لم تكن له حَسنات أُخِذ من سيِّئات صاحبه فحُمل عليه)).
ذلك نصح الإسلام لِمن عليه الحق، أمَّا مَن له الحق، فقد رغب إليه أن يلين ويَسمح، وأن يمسَحَ أخطاءَ الأمس بقبول المَعذرة، عندما يجيء له أخوه معتذرًا ومستغفرًا.
ورفضُ الاعتذار خطأ كبير، وفى الحديث: ((مَن اعتذر إلى أخيه المسلِم فلم يَقبل منه، كان عليه مِثل خطيئة صاحِب مكس)).
وفى روايٍة: ((من تُنُصِّل إليه فلم يَقبل، لم يَرِدْ عليَّ الحوض))، وبهذا الإرشاد المبين للطرفين جميعًا يحارِبُ الإسلام الأحقادَ، ويقتل جرثومتها في المهد، ويرتقي بالمجتمع المؤمن إلى مستوًى رفيع، من الصَّداقات المتبادلة، أو المعاملات العادلة.
وقد اعتبر الإسلام مِن دلائل الصَّغار وخسَّة الطبيعة، أن يرسب الغل في أعماق النَّفس فلا يخرج منها، بل يظل يَموج في جوانبها كما يَموج البركان المكتوم، وكثير من أولئك الذين يحتبس الغلُّ في أفئدتهم يتلمَّسون متنفسًا له في وجوه مَن يقع معهم، فلا يستريحون إلَّا إذا أرغوا وأزبدوا، وآذوا وأفسدوا.
روي عن ابن عبَّاس، أن رسول الله قال: ((ألا أنبئكم بشِراركم؟))، قالوا: بلى، إن شئتَ يا رسولَ الله، قال: ((إنَّ شراركم الذي ينزِل وحده، ويجلد عبده، ويمنع رفدَه، أفلا أنبِّئكم بشرٍّ من ذلك؟))، قالوا: بلى، إن شئتَ يا رسول الله، قال: ((من يبغض الناس ويبغضونه، قال: أفلا أنبِّئكم بشرٍّ من ذلك؟))، قالوا: بلى، إن شئتَ يا رسولَ الله، قال: ((الذين لا يُقيلون عثرة، ولا يَقبلون معذرة، ولا يَغفرون ذنبًا، قال: أفلا أنبِّئكم بشرٍّ من ذلك؟))، قالوا: بلى، يا رسولَ الله، قال: ((مَن لا يُرجى خيره، ولا يُؤمَن شرُّه)).
والأصناف التي أحصاها هذا الحديث أمثلة لأطوار الحِقد عندما تتضاعَف علَّتُه وتفتضح سَوءته، ولا غرو؛ فمِن قديمٍ أحسَّ الناس - حتى في جاهليَّتهم - أنَّ الحقد صِفة الطبقات الدنيا من الخلق! وأنَّ ذوي المروءات يتنزَّهون عنه، قال عنترة:
لا يَحمِلُ الحقدَ مَن تَعلو به الرُّتَبُ 

ولا ينال العُلا مَن طبعه الغضَبُ



ليتنا نكون جميعًا شجعانًا؛ فنعتذر لِمن أخطأنا في حقِّهم، ولنكن جميعًا كرماء؛ فنقبل الاعتذارَ ممَّن أخطأ في حقِّنا.
إرسال تعليق