في نصوص بردية آني الأصلية،بقلم /آية محمود رزق

في نصوص بردية آني الأصلية،بقلم /آية محمود رزق



في نصوص بردية آني الأصلية،
بقلم /آية محمود رزق 
 هناك مقاطع مكتوبة بصيغة المتكلم، كأن الروح هي التي تتحدث مباشرة للآلهة، ومن التعاويذ الشهيرة فيها نقرأ مثلًا: "أيها القلب الذي ورثته عن أمي، يا قلبي الذي في كياني، لا تقف شاهداً ضدي في محكمة الآلهة، لا تثر ضدي حين يُوزن كلامي، لا تكن عدوي أمام الحاكم، لا تجعلني أقع في فم التمساح، ما قلته كان صدقاً، وما فعلته كان في النور"، هذا المقطع وحده يحمل مزيجاً نادراً من الرهبة والرجاء، ويكشف كيف كان المصري القديم يُناجي قلبه وكأنه كائن مستقل، ويطلب منه أن يكون نزيهاً كما كان الجسد نزيهاً في الدنيا، وفي اعترافاته السلبية يقول المتوفى أمام الآلهة: "لم أظلم إنساناً، لم أسرق، لم أقتل، لم أكذب، لم أغتصب أرضاً، لم أكن سبباً في بكاء أحد، لم أكن مجحفاً في الميزان، لم أتجاوز في القول، لم أكن صاخباً في المعبد، لم أرفع صوتي على أبي، لم أسيء إلى أمي، لم ألوث ماء النيل"، هذه العبارات تصنع صورة أخلاقية راقية لا تُقال في لحظة تظاهر بل في لحظة الحساب، لحظة الصدق المطلق.
ولما نجمع كل ده مع رحلة الروح، من الولادة الثانية داخل التابوت، إلى مواجهة الذات، إلى عبور الأبواب الحارسة، إلى مرافقة رع في مركب الشمس، نكتشف إن كتاب الموتى كان كتابًا عن الحياة في جوهره، لأنه كان يعلّم الإنسان كيف يعيش بطريقة تؤهله أن لا يموت أبدًا، كان يعلم أن الخلود لا يبدأ بعد الموت بل يبدأ عندما تُضيء قلبك، وتعرف اسمك، وتعرف مافعلت، وتعرف أنك صغير أمام الكون لكنك عظيم إن عشت بالحق، فكل تعويذة كانت تُفعّل جزءًا من وعي الميت، كل مشهد كان صورة رمزية لحالة من حالات النفس، والآلهة لم تكن وحوشاً فوقية، بل كانت رموزاً للطاقة والعدالة والتوازن، وأوزير لم يكن مجرد إله ميت، بل هو الميت المستيقظ في كل إنسان، الذي ينتظر أن يقف ويُوزن ويُبعث.
وهكذا تصير بردية آني وثيقة غير قابلة للفناء، لأنها تحكي عن السؤال الذي لم يتوقف الإنسان عن طرحه منذ خُلق: ماذا يحدث بعد الموت؟ هل أنا مستعد؟ ماذا سيقول قلبي إذا سُئل؟ وهل ما فعلته في حياتي كافٍ لأعبر إلى الضوء؟ المصري القديم لم يكن يعرف أجوبة جاهزة، لكنه كتب هذا الكتاب كي يصنع الجواب بنفسه، كتاب من نور الحبر والماء والبردي، فيه روح من مات، وروح من يقرأ.
في كل سطر من هذه البردية، وجدتُ نفسي. لم أقرأ كتاب الموتى كوثيقة أثرية، بل كمرآة للروح، وكأن كل تعويذة نداء من زمن بعيد لأرواح تبحث عن النقاء في زمننا هذا. هذا الكتاب ليس عنهم فقط، بل عنا جميعًا. نحن أيضًا نُوزن، نتحول، نحاول أن نخرج في النهار بعد كل ظلمة. وها أنا أكتب هذا البحث، لا فقط لأوثق، بل لأُضيء معكم الطريق.
كتبت لأتذكّر… ولتتذكّروا.


اكتب تعليق

أحدث أقدم