الإنسان وقيد الحرية: هروب لا ينتهي

الإنسان وقيد الحرية: هروب لا ينتهي


الإنسان وقيد الحرية: هروب لا ينتهي
بقلم /آية محمود رزق 
منذ أن وُجد الإنسان وهو يكتشف أنه لم يولد حرًا كما يتمنى، بل جاء إلى هذا العالم مثقلًا بقيود لا حصر لها، بعضها يراه بعينيه وبعضها يسكن أعماقه في صمت مميت. يولد الطفل فلا يختار اسمه ولا لغته ولا مكانه ولا زمنه، يكبر ليجد نفسه أسير جسد محدود القوة، يحتاج إلى الطعام والنوم والراحة، أسير زمن لا يتوقف عن دفعه نحو الشيخوخة والموت، وأمام هذه الحقيقة الأولى يعي الإنسان أنه ليس سيدًا مطلقًا، بل كائن محكوم بقوانين الوجود التي لا يستطيع كسرها. ومع ذلك لا يستسلم، بل يبدأ رحلة طويلة للهروب من هذه القيود، رحلة يظنها ستوصله إلى الحرية، لكنها لا تزيده إلا إدراكًا أنه كلما حطم قيدًا وفتح بابًا، وجد نفسه في قيد آخر أكثر عمقًا.

الفلاسفة الكبار حاولوا تفسير هذا المأزق الإنساني. جان بول سارتر، رائد الوجودية، أعلن أن الإنسان "محكوم بالحرية"، أي أن الحرية ليست منحة بل عبء ثقيل، فالمجتمع يفرض على الفرد خياراته، لكن حتى حين يتمرد ويختار بنفسه، يبقى مسؤولًا بالكامل عن هذا الاختيار، فيعيش أسيرًا لثقل الحرية لا لخسارتها. كأن الحرية نفسها تتحول إلى قيد جديد أشد وطأة من كل القيود الأخرى، لأن الهروب منها مستحيل. أما فريدريك نيتشه فقد رأى أن الإنسان يصنع قيوده بنفسه عبر أخلاق القطيع، إذ يهرب من مواجهة ذاته القوية ليتماهى مع قوانين الجماعة، فيعيش عبدًا للقيم التي لم يخترها بل ورثها بلا وعي، وفي محاولته للهروب من الوحدة يصير أكثر ضعفًا وخضوعًا، فلا يتحرر إلا حين يمتلك شجاعة "إرادة القوة"، أي حين يخلق قيمه بنفسه ويتجاوز عبودية الآخرين. بينما ابن عربي، الفيلسوف والمتصوف المسلم، ذهب إلى أبعد من ذلك حين رأى أن كل قيد في الحقيقة وهمي، وأن الحرية المطلقة لا تكون إلا بالاتحاد مع المطلق ذاته، فحين يدرك الإنسان أنه عبد لله وحده يتحرر من كل عبودية أخرى، لكن حتى هذا التحرر يتطلب خضوعًا جديدًا، خضوعًا طوعيًا للحق، وكأن الحرية ليست هروبًا من القيد بل وعيًا بعمق العبودية الحقيقية.

يحاول الإنسان في مسيرته أن يهرب بعقله، فيطرح الأسئلة الكبرى عن سر الوجود ومصير الروح ومعنى الحياة، يظن أن التفكير بحد ذاته تحرر، لكنه يكتشف أن عقله يمكن أن يصبح قيدًا حين يغرقه في أسئلة لا إجابة لها، فيجد نفسه أسيرًا لفكر لا ينتهي. ثم يهرب بالفن، فيرسم ويكتب ويغني ليصنع عالمًا موازيًا يعيش فيه حرًا بلا قوانين، لكن الفن يكشف له ضعفه ويعرّيه أمام ذاته، فيتحول من وسيلة للهروب إلى مرآة قاسية تعكس كل ما كان يريد أن يفر منه. يلجأ بعد ذلك إلى الدين والروحانية، يرى في الإيمان نافذة تتجاوز حدود الجسد والزمن، يطمئن بروحه إلى خلود يتخطى الموت، لكنه يكتشف أن الدين بدوره يضعه أمام قيد الطاعة والالتزام، وأن التحرر الروحي يظل مشروطًا بالخضوع لسلطة أعلى.

وحين تضيق به القيود، يثور ويتمرد. يهدم العادات والقوانين، يواجه المجتمع، يكسر كل ما صاغه الآخرون حوله، يظن أنه بلغ الحرية أخيرًا، لكنه يفاجأ أن الثورة نفسها تتحول إلى نظام جديد يفرض سلطته عليه، وأن التمرد الذي حلم به يصنع سجنًا آخر لكنه هذه المرة باسم الحرية. وفي النهاية، يهرب البعض إلى الوهم، يظنون أن لذّة عابرة أو مخدر أو عالم افتراضي أو حتى حب زائف سيحررهم من سطوة القيود، لكنهم يستيقظون ليكتشفوا أنهم صاروا عبيدًا للوهم ذاته.

المفارقة الكبرى أن الإنسان يهرب من القيود لأنه يكرهها، لكنه في أعماقه لا يستطيع أن يعيش بلا قيد، فالفوضى المطلقة التي قد تتيحها الحرية الكاملة لا تمنحه الخلاص بل تحوله إلى كائن تائه بلا معنى، لذلك يبحث دومًا عن نظام، عن قاعدة، عن سياج يحميه حتى لو ادعى كرهه لها. الحرية ليست غياب القيود كما يظن الكثيرون، بل القدرة على وعيها والتصالح معها وربما اختيار أي قيد يعيش داخله. فالإنسان لم يكن يومًا كائنًا حرًا بالمطلق، بل كان دائمًا محكومًا بدائرة أبدية: يكسر قيدًا ليصنع قيدًا جديدًا، ويهرب من سجن ليجد نفسه في آخر، وربما حريته الوحيدة الحقيقية تكمن في تلك اللحظة النادرة التي يدرك فيها أنه لا يستطيع الانفلات من القيود، لكنه يستطيع أن يحيا وهو واعٍ لها، لا ضحية لها.

اكتب تعليق

أحدث أقدم