مقال بعنوان : "طز": كمال عبد الجواد ومحجوب عبد الدايم بين الانكسار واللامبالاة في فكر نجيب محفوظ.
بقلم:
ا.د ابراهيم محمد مرجونة
تبدو كلمة "طز" في عالم نجيب محفوظ أكثر من مجرد لفظ دارج أو تعبير عابر عن الرفض أو السخرية؛ إنها صرخة وجودية تختزل مأساة الإنسان بين الحلم والخذلان، بين المثالية التي تنهار على صخرة الواقع، والانتهازية التي تزدهر فوق أنقاضها. في روايتي "الثلاثية" و"القاهرة الجديدة"، تتخذ الكلمة وجهاً مزدوجاً يعكس قطبين متنافرين في الفكر والسلوك:
كمال عبد الجواد المثقف الحالم المتعب من خيباته، ومحجوب عبد الدايم البراجماتي البارد الذي لا يرى في الحياة إلا ساحة للمصالح .
عند كمال عبد الجواد، تتفجر "طز" من أعماق روح مثقفة أنهكها الصدام بين الفكر والواقع.
إنها ليست كلمة نابية، بل تنهيدة رجل أدرك متأخراً أن القيم التي عاش من أجلها لم تعد تجد موطئ قدم في عالم يزدري الصدق والفضيلة.
هي صدى خيبة تتردد بين جدران العزلة الفكرية، حيث ينهار الإيمان بكل شيء: بالسياسة، بالمجتمع، بل حتى بالمجد الشخصي.
"طز" هنا هي إعلان رمزي عن سقوط الحلم وانطفاء الأمل، أشبه بما وصفه ألبير كامو بالتمرد العبثي؛ رفضٌ لا يغيّر الواقع لكنه يثبت بقاء الوعي، ولو جريحاً.
أما في المقابل، فإن "طز" عند محجوب عبد الدايم تحمل نبرة مغايرة تماماً.
إنها ليست وجعاً، بل استهتاراً. ليست رفضاً منكسراً، بل قبولاً متعالياً بالفساد.
محجوب لا يتمرد على الواقع بل يحتضنه؛ يرى في سقوط المبادئ فرصة للارتقاء الاجتماعي، وفي بيع الشرف طريقاً إلى النجاح. "طز" في فمه تصبح إعلاناً عن موت الضمير وقيام فلسفة المنفعة على أنقاض القيم، كما لو كان يسير على خطى (جيريمي بنثام وجون ستيوارت ميل ) حينما اختزلا الخير في أقصى منفعة ممكنة، غير أن محفوظ يُفرغ هذه النفعية من معناها الفلسفي النبيل ليكشف وجهها القبيح في واقع مأزوم.
بهذا التناقض الحاد بين كمال ومحجوب، يرسم محفوظ مشهداً فريداً للإنسان المصري في زمن التحول والخيبة: المثقف الذي تكسّرت أوهامه أمام جدار الواقع، والبراجماتي الذي اعتاد السير فوق الرماد وباع حتى شرفه وعرضه بكل أريحية حتى يحقق مبتغاه.
وصار صاحب المبادىء والقيم ضحية زمن لا يمنح التوازن بين المبدأ والبقاء، بين الكرامة والنجاح.
إن استخدام محفوظ لكلمة "طز" في الحالتين يتجاوز معناها الشعبي إلى رمز فلسفي شديد الكثافة: فهي في حالة كمال احتجاج صامت على فساد العالم، وفي حالة محجوب تبرير صارخ لقبول هذا الفساد.
إنها المفارقة التي تكشف عن الصراع الأبدي بين الإنسان وقيمه، بين من يرفض الخضوع ومن يتواطأ مع العبث.
بهذا المعنى، لا تُعد "الثلاثية" ولا "القاهرة الجديدة" مجرد روايات عن أشخاص، بل عن أفكار تمشي على قدمين. نجيب محفوظ لا يرسم ملامح أبطال فحسب، بل يرسم ملامح عصر بأكمله، تتنازعه مثالية يائسة وانتهازية واثقة.
فكلمة "طز" هنا تكتسب بُعدها الرمزي كشرارة داخل نصوص محفوظ، تحرق أقنعة الزيف الاجتماعي وتكشف عن عمق الجرح الإنساني.
وإذا كان (كامو) قد رأى في التمرد لحظة وعي، فإن كمال عبد الجواد يعيش هذا الوعي حتى الفناء؛ بينما محجوب عبد الدايم يختار العمى المريح على بصيرة موجعة. وبين الاثنين تتشكل مأساة الإنسان في أدب محفوظ: مأساة من يرى الحقيقة ولا يستطيع احتمالها، ومن يرفضها ليعيش في سلام زائف.
في الأخير، يمكن القول إن "طز" في عالم نجيب محفوظ ليست مجرد كلمة، بل موقف فلسفي مكثّف يجسد الواقع ذاته بكل متنافضاته.
إنها المفصل الذي يختصر رحلة الإنسان بين الطهر والسقوط، بين المثالية والبراجماتية، بين الحلم بالعدالة والاستسلام لواقعها الملوث.
هكذا تتحول الكلمة الشعبية العابرة إلى أيقونة فكرية، تختزن داخلها تاريخاً من الخيبات الإنسانية، وتفضح التناقض الأبدي بين ما نؤمن به وما نفعله حين تضيق الحياة.
إرسال تعليق