“هندسة التفاهة والهيمنة الناعمة”
بقلم
ا.د إبراهيم محمد مرجونة
“هندسة التفاهة: كيف يُعاد تشكيل الإنسان من الداخل في زمن الهيمنة الناعمة؟”
في عالمٍ يتغير بسرعة تفوق قدرة الإنسان على الفهم، أصبحنا نعيش داخل شبكة غير مرئية، تُقاد فيها العقول قبل الخطوات، وتُصنع فيها الاهتمامات قبل أن تتشكل الرغبات. لم تعد التفاهة مجرد محتوى خفيف يبثُّ بعض الضحك أو التسلية، بل صارت منظومة متكاملة تتغلغل في كل شاشة وبيد كل فرد، حتى غدت جزءًا من الحياة اليومية، وجزءًا أدقّ من الوعي ذاته. إنها ليست حضورًا عابرًا، بل حضورًا مُهندَسًا، يُعاد من خلاله تشكيل الإنسان قطعةً قطعة، حتى دون أن يشعر.
فالإنسان، حين يجلس أمام هاتفه، يتخيّل أنه صاحب القرار: ينقر ما يشاء، ويبتعد عمّا يشاء. لكن الحقيقة أعمق وأكثر التواءً. ما يتدفّق أمامه ليس عالمًا مفتوحًا كما يتوهم، بل عالمٌ مُصفّى، مُختار بعناية، يقدَّم له بناءً على رغباته المفترضة، لا الحقيقية؛ وكأن هناك “آخر” خفيّ يضع أمامه ما يجب أن يراه. هنا تظهر جوهر الهيمنة الناعمة: أن تُقاد دون أن تدرك، وأن تُصاغ أولوياتك دون أن تُستشار. وكما قال بورديو: “أخطر أشكال السلطة هي تلك التي تُمارس دون أن تُرى.”
فأنت صنعت لك حالة مزاجية وانت متخيل أنك الصانع ؟!
وفي هذا السياق، تتحوّل التفاهة إلى سلاحٍ ناعم، لا يقتل الجسد بل يخدّر العقل. لم تعد السيطرة الحديثة بحاجة إلى نشر الخوف أو الرعب، بل يكفيها أن تنشر الضوضاء. يكفيها أن تضع بين يديك مئات المقاطع القصيرة والمحتويات الفارغة التي تُغرق مساحة انتباهك. فحين يصبح العقل منشغلًا بما لا قيمة له، يفقد تلقائيًا قدرته على الاهتمام بما له قيمة. هكذا تُنتَزع المقاومة من الإنسان بهدوء، كما لو أن شيئًا لا يحدث، بينما يحدث كل شيء.
إن الآخر — العدو العالمي الغربي الحقيقي وكل صاحب مصلحة في تغيبك وضعفك سواء تمثّل في الشركات الرقمية، أو القوى الإعلامية، أو النماذج الثقافية المهيمنة — لا يشنّ حربًا معلنة. هو يمارس ما يشبه ما تحدث عنه فوكو في حديثه عن “تقنيات السيطرة”: يوجّه، لا يفرض؛ يحاصر، دون أن يستخدم القسر.
إن تغذية البشر يوميًا بجرعات من التفاهة ليست عملية ترفيهية، بل عملية إعادة تشكيلٍ كاملة: إعادة تشكيل للذوق، ولأولويات الوقت، ولقدرة الإنسان على التركيز، ولصوته الداخلي الذي ينطفئ كلما انشغل بما هو بلا معنى.
ولعلّ المفارقة أن البشر، وهم يتهافتون على ما لا ينفع، يظنون أنهم يمارسون حريتهم. بينما الحقيقة، كما قال نيتشه، أن “الإنسان يهرب من نفسه بقدر ما يستطيع.” والتفاهة ليست سوى وسيلة هروب جماعي من التفكير، من الأسئلة الكبيرة، من مواجهة الفراغ الداخلي. وهذا ما يجعلها خطيرة: فهي تُظهر نفسها كمتعة، لكنها تعمل عمل المخدر الذي يهدّئ الروح مؤقتًا، ثم يتركها خاوية.
ومع الوقت، تنشأ قيم جديدة تُزيح القيم القديمة بلا صراخ.
تصبح الشهرة أهم من القيمة، والظهور أهم من الجوهر، والانتشار معيارًا للحقيقة. إن هذا التحوّل ليس مجرد انحطاط ذوقي، بل إعادة ترتيب للبنية الأخلاقية ذاتها. فلا يعود السؤال: “ما الذي أقوله؟” بل “كم من الناس يسمعني؟” ولا يعود السؤال: “هل ما أفعله يستحق؟” بل “هل سيصل للترند؟” عند هذه اللحظة، يتكشّف وجه الهيمنة في أوضح صورة: أن يُقاس الإنسان بمعايير ليست من صنعه، وأن يتماهى معها ظنًا منه أنها تمثل ذاته.
غير أنّ كل منظومة سيطرة — مهما كانت ناعمة — تحمل في بنيتها ما يسمح بمقاومتها. فالمعنى، إذا وُجد، كفيل بأن يكسر الدائرة. المقاومة تبدأ من لحظة وعي صغيرة، من مساءلة بسيطة: “لماذا أشاهد ما أشاهد؟ لماذا أسمح لوقتي أن يُستنزف؟ ماذا بقي منّي حين ينطفئ ضوء الشاشة؟” إن إدراك أن التفاهة ليست عَرَضًا بل إستراتيجية يُعيد للإنسان شيئًا من حريته. ولعلّ ما قاله كامو يصلح هنا: “التمرد يبدأ حين يقول المرء: لا.”
لا للتسطيح، لا لتوجيه الوعي، لا لتحويل الإنسان إلى متلقٍّ أبكم في عالمٍ صاخب.
وحين تنطق هذه “اللا”، ولو بصوت خافت داخلي، يبدأ الإنسان باستعادة ذاته، ولو ببطء. فالقيمة لا تختفي، لكنها تحتاج إلى من يُفسح لها طريقًا وسط هذا الضجيج. والعقل لا يموت، لكنه يحتاج إلى صمت كي يستعيد قدرته على الرؤية.
غاية القول، ليست القضية أن نلغي التفاهة — فهي جزء من الطبيعة البشرية — بل أن نمنعها من أن تتحول إلى نظام حياة. أن نستعيد توازنًا يمكّننا من رؤية الأشياء كما هي، لا كما تُقدَّم لنا.
أن ندرك أن الزمن الذي يبتلعه اللاشيء لا يعود. وأن الحرب اليوم لم تعد حرب أفكار فقط، بل حرب على انتباهك، على وعيك، على قدرتك على التفكير بحرية.
وهنا، وسط هذا العالم المصمَّم ليشتتك، يصبح العمق — بكل بساطته — فعل مقاومة. ويصبح الحفاظ على جوهرك، وعلى صمتك الداخلي، شكلًا من أشكال الانتصار في معركة لا صوت لها، لكنها معركة تُحدد مَن نكون.
إرسال تعليق