إنعدام الرغبة بقلم ا.د إبراهيم محمد مرجونة

إنعدام الرغبة بقلم ا.د إبراهيم محمد مرجونة



مقال بعنوان:- إنعدام الرغبة 
بقلم 
 ا.د إبراهيم محمد مرجونة 


في زمنٍ يركض فيه كل شيء بلا توقف، قد يستيقظ الإنسان فجأة ليكتشف أن شيئًا ما انطفأ في داخله. لا حزن صريح، ولا غضب واضح، فقط فراغ ثقيل يُسمّى ببساطة: انعدام الرغبة. 

شاب في منتصف العشرينيات يفتح عينيه كل صباح، يحدّق في السقف قليلًا، يشرب قهوته بلا مذاق، ويخرج إلى عمله كما لو كان يؤدي مشهدًا مكررًا في مسرحية فقدت جمهورها. لا هو كسول، ولا فاقد للعقل، لكنه فقد الشغف؛ تلك الشرارة الصغيرة التي كانت تجعل للحياة طعمًا ومعنى.

هذا الفراغ لا يهبط دفعة واحدة، بل يتسلل بهدوء. يبدأ بإرهاق مزمن، ثم يتحول إلى لا مبالاة، ثم إلى شعور خفي بأن كل شيء متشابه. في مدن مزدحمة مثل القاهرة أو الإسكندرية أو حتى دمنهور، يقضي الشاب ساعتين يوميًا في المواصلات، يصل إلى مكتبه مستنزفًا قبل أن يبدأ. يعود مساءً مرهقًا، لا طاقة له على حلم، ولا رغبة في حوار. ومع ضغط المعيشة، وارتفاع الأسعار، وضبابية المستقبل، تتحول الطموحات إلى عبء نفسي بدل أن تكون دافعًا.

أحد الموظفين في شركة خاصة قال ذات مرة: «أكثر ما يخيفني أنني صرت أعدّ الأيام، لا أعيشها. الجمعة لم تعد فرحة، والإجازة صارت وقتًا ضائعًا أنتظر نهايته». هذه الحالة معروفة نفسيًا باسم فقدان التلذذ، حيث يتوقف الدماغ تدريجيًا عن مكافأة الإنسان على الجهد، بسبب الضغط المزمن وقلة النوم وتراكم القلق. 

بعد جائحة كورونا، أصبحت هذه الحالة أكثر شيوعًا، خصوصًا بين الشباب الذين دخلوا سوق العمل في ظروف غير مستقرة.
.
لكن المسألة لا تتوقف عند الجسد. الجانب النفسي والاجتماعي أكثر تعقيدًا. وسائل التواصل الاجتماعي، التي كنا نظنها نوافذ على العالم، تحولت إلى مرايا قاسية. نرى نجاحات الآخرين في صور مثالية: سفر، سيارات، زواج، مشاريع ناجحة. ننسى أن هذه مجرد لقطات منتقاة، فنقارن حياتنا اليومية بها، ونخرج دائمًا خاسرين. في البيت، هناك ضغط من نوع آخر: “متى تتزوج؟”، “أين وصلت؟”، “ابن فلان سبقك”. تتراكم التوقعات حتى يشعر الشاب أنه يعيش حياة ليست حياته.
هذا الشعور ليس جديدًا على التاريخ. الرومان في أواخر إمبراطوريتهم أصيبوا بملل جماعي، فقدوا الإيمان بالمستقبل رغم القوة الظاهرة.

  حين يغيب الأمل، تذبل الرغبة،الخطر الحقيقي أن انعدام الرغبة لا يؤذي الفرد وحده. من يفقد شغفه ينسحب تدريجيًا من علاقاته، يقل حديثه، يختصر مشاعره، فيتسع الشرخ داخل الأسرة، ويزداد الاكتئاب، وتنخفض الإنتاجية.

 تخيّل مجتمعًا كاملًا يعيش بهذا المزاج: شباب بلا طموح، آباء بلا إلهام، وأطفال يتعلمون اللامبالاة مبكرًا. البطالة، حتى حين تكون نسبتها محدودة، تترك أثرًا نفسيًا أعمق بكثير من أرقامها.
ومع ذلك، ليس هذا الفراغ نهاية الطريق. أحيانًا يكون الإنهاك رسالة، لا حكمًا نهائيًا. استعادة الرغبة لا تحتاج معجزات، بل خطوات صغيرة وصادقة.

 البداية من الجسد: المشي نصف ساعة يوميًا، حتى لو بلا هدف، يعيد شيئًا من التوازن. النوم المنتظم وحده قادر على تغيير المزاج أكثر مما نتخيل.

 ثم تأتي الأهداف الصغيرة: أن تنهي مهمة بسيطة، أن تقرأ صفحة، أن ترتّب غرفتك. 

الإنجازات الصغيرة تعيد للإنسان ثقته بنفسه.
كسر الروتين له مفعول سحري. زيارة مقهى جديد، تغيير طريق العودة، الاستماع إلى موسيقى قديمة، أو قراءة قصيدة لمحمود درويش في وقت هدوء. هذه التفاصيل البسيطة تعيد الإحساس بالحياة. 

في ثقافتنا الروحية، للصلاة والتأمل دور عميق في إعادة الاتصال بالذات، ليس بوصفهما واجبًا فقط، بل ملاذًا نفسيًا يعيد ترتيب الداخل.
التقليل من وقت الشاشات، ولو ساعة واحدة يوميًا، يصنع فرقًا حقيقيًا. وإذا استمر الشعور، فطلب المساعدة ليس ضعفًا. 

وأخيراً، انعدام الرغبة ليس عيبًا، ولا فشلًا أخلاقيًا، بل جرس إنذار. دعوة لإعادة النظر، لإبطاء الخطى، ولإشعال شرارة صغيرة بدل انتظار نار كبيرة. الشغف هو الوقود الحقيقي للحياة، وبدونه نتحرك فقط، لا نعيش. وربما يكون القرار الأبسط — أن تبدأ اليوم بخطوة صغيرة — هو ما يعيدك إلى نفسك، ويعيد للحياة لونها الذي ظننته ضاع.

اكتب تعليق

أحدث أقدم