أضيعُ من قمر الشتاءبقلم: فاطمة زيدان

أضيعُ من قمر الشتاءبقلم: فاطمة زيدان


أضيعُ من قمر الشتاء
بقلم: فاطمة زيدان
محاضر بالجامعة الإسلامية بولاية مينيسوتا
والباحثة في التاريخ والتراث
 

في خضم الأمثال العربية القديمة، يسطع مثل "أضيَع من قمر الشتاء" كمرآةٍ للحكمة والبصيرة. فقد استخدمه القدماء ليعبّروا عن الأشياء الجميلة التي تهدر ولا تقدر قيمته تماماً كما لا يجلس أحد ليستمتع بضوء قمر الشتاء بسبب برده القارس. هذا المثل ليس مجرد صورة شعرية، بل درس في الانتباه للجمال المخفي حولنا، وفهم أن الجمال الحقيقي قد يظل باقياً حتى وإن غفل عنه كثيرون.
أضيعُ من قمر الشتاء، لم تكن مبالغة، فالقمر هو القمر؛ ذات الضياء، ذات الفتنة، لكن الشتاء يسرق منه شهوده. البرد يُعجل بالانصراف، والليل يُغلق نوافذه باكرًا، فلا ساهر يتأمله. 
يضرب هذا المثل للأشياء الجميلة التي تُمنَح ولا تُستثمر، تُوجد ولا تُحتضن، كأن جمالها جاء في غير أوانه، أو وُضع في غير موضعه. هو جمال صحيح ما به من نقص… لكن الحضور غائب.
فكم من فكرة ناضجة ضاعت لأن زمانها لم يكن مستعدًا لها؟
وكم من روح مرهفة الحس أهدرت لأن القسوة كانت أعلى صوتًا من الرهافة؟
وكم من إنسان كاملِ العطاء، قمر في ذاته، لم يجد من يسهر على نوره؟
قمر الشتاء لا يقل إشراقًا عن قمر الصيف، لكنه أقل حظًا.
وهكذا بعض الجمال: لا يُقاس بقيمته، بل بمدى استعداد الآخرين لاستقباله.
فليست الخسارة دائمًا في النقص،
أحيانًا تكون الخسارة في الوفرة التي لا تجد من يلتفت إليها.
ابن الحجاج استخدم المثل ليصف حاله بين الناس: موهبة بلا تقدير، علم بلا احتفاء، حضور جميل في بيئة لا تحسن النظر. فهو لم يكن ينفي قيمته، بل كان يشكو ضياعها.
وهنا يا صديقي، ليس كل ضياع ناتجًا عن نقص صاحبة، وبعض الضياع سببه أن الجمال جاء في وقت لا يعرف السهر كقمرِ الشتاء، كامل الضوء، قليل الشهود، يفيض جمالًا ويضيع لأن لا أحد يسهر له وعليه.
وهكذا، لا يُقاس الجمال بعدد العيون التي توقفت عنده، ولا بطول السهر تحت ضوئه؛ فبعض الجمال يُخلق ليكون، لا ليُرى. قد يمر كاملُ الضوء في ليالٍ باردة دون شاهد، لكن نقص الشهود لا ينقص من اكتماله شيئًا. فالجمال يكتفي بذاته، حتى وإن لم يُرى، والبدر يظل بدرًا، صيفًا كان أو شتاءً.
وأخيرًا، أيها البدر، لا بد أن تجدَ من يسهر على ضوئك، فتغدو عتمته نورًا بك.

اكتب تعليق

أحدث أقدم