بين "عصا" التلقين و"رسالة" التنوير: رحلة التعليم في مرآة الفن المصري

بين "عصا" التلقين و"رسالة" التنوير: رحلة التعليم في مرآة الفن المصري

 


كتب: باهر رجب 

تعد السينما والدراما المصرية من أكثر السجلات الفنية ثراء في رصد تحولات المنظومة التعليمية، فمنذ أربعينيات القرن الماضي وحتى اليوم ، لم يكن "الفصل الدراسي" مجرد مكان لتصوير المشاهد، بل كان مختبرا لصراع الأجيال، ومرآة تعكس حال المجتمع المصري.


المرحلة الكلاسيكية: المعلم كرمز للوقار و القداسة

في الأربعينيات و الخمسينيات، رسمت الشاشة صورة "المعلم" بهالة من الإجلال لا تمس. كان الأستاذ حمام في فيلم "غزل البنات" (1949) النموذج الأبرز للمدرس الذي، رغم فقره وحاجته، يمتلك كرامة وعزة نفس تجعله منارة أخلاقية لتلميذته. في هذه المرحلة، كان التعليم يقدم كـ "رسالة" مقدسة، والمدرسة هي محراب للعلم. ركزت الأفلام حينها على فكرة المعلم الحكيم الذي لا يكتفي بنقل المعلومات، بل يربي الوجدان، وكانت السيطرة داخل الفصل تتم عبر الهيبة والمحبة، لا عبر الخوف المادي.


صدمة السبعينيات: "مدرسة المشاغبين" وزلزال التمرد

مع حلول السبعينيات، بدأت الصورة المثالية في التأكل، وظهرت "مدرسة المشاغبين" لتعيد صياغة علاقة الطالب بالمعلم. هنا بدأ التركيز على "المشاكل الطلابية" و التمرد على السلطة الأبوية للمدرس. كشفت هذه المرحلة عن الفجوة العميقة بين جيل يقدس التقاليد وجيل متمرد يبحث عن ذاته. ظهرت لأول مرة فكرة فقدان السيطرة داخل الفصل، وتحول المدرس من صاحب سلطة مطلقة إلى شخص يحاول استعادة هيبته المفقودة وسط سخرية الطلاب، مما فتح الباب لنقاشات موسعة حول انهيار القيم التربوية مقابل صعود قيم الاستهلاك.


التسعينيات: المدرس كضحية اقتصادية ومعركة "أبلة حكمت"

انتقلت الدراما في التسعينيات إلى بعد أكثر واقعية، حيث برزت صورة "المدرس الضحية". مع مسلسل "ضمير أبلة حكمت"، رأينا الصراع بين المنظومة الأخلاقية والفساد الإداري. هنا ظهرت "أبلة حكمت" كنموذج للمديرة التي تحاول الحفاظ على وقار المهنة في وجه "الواسطة" والمحسوبية. وفي نفس الحقبة، بدأ تسليط الضوء على المعاناة المادية للمعلم، وكيف تحول البعض إلى "تجار علم" عبر الدروس الخصوصية نتيجة الضغوط الاقتصادية، وهو ما جسده ببراعة الفنان نور الشريف في أعماله التي ناقشت كرامة المدرس مقابل لقمة العيش.


الألفية والمدارس الخاصة: صراع الحفظ مقابل الفهم

مع دخول القرن الحادي والعشرين، ركزت السينما (مثل فيلم "الناظر" و"رمضان مبروك") على المقارنة بين التعليم الحكومي والمدارس الخاصة (International). ناقشت هذه الأعمال قضية "الحفظ والتلقين" مقابل "الفهم والإبداع". ففي "الناظر"، كان الصراع بين إدارة "عاشور" القائمة على القسوة والضرب، وبين إدارة "صلاح" القائمة على الحب والنشاط الطلابي. أما "رمضان مبروك"، فقد سلط الضوء على سطوة المال في المدارس الخاصة، حيث يصبح الطالب (ابن المسؤول) هو المتحكم، و يهان المعلم الذي يحاول التمسك بمنهجية و وقار لغته العربية.


العصر الحديث (2015 - 2025): التكنولوجيا، التنمر، والمناهج

في السنوات الأخيرة، وخاصة في أعمال مثل "دايما عامر" و"الجيل الرابع"، انتقلت بؤرة التركيز إلى تحديات العصر الرقمي. لم يعد الصراع حول "السبورة و الطباشير"، بل حول "التابلت" ومنصات التواصل الاجتماعي. برزت قضية "التنمر" كأفة مدرسية تهدد الصحة النفسية للطلاب، وكيف يمكن للمناهج التعليمية أن تؤثر في فكر الشباب و تحميهم من التطرف أو الانغلاق. كما تم تسليط الضوء على "الأخصائي الاجتماعي والنفسي" كحلقة وصل مفقودة، فدوره لم يعد مكتبيا بل أصبح المنقذ الذي يفكك شفرات المراهقين ويحتوي أزماتهم النفسية والمنزلية.


يبقى الفن المصري هو الشاهد الأكبر على أن المدرسة ليست مجرد جدران، بل هي المصنع الذي يصاغ فيه عقل الأمة، وأن المعلم سيظل دائما هو حجر الزاوية الذي إذا استقام، استقامت مسيرة الوطن.


اكتب تعليق

أحدث أقدم