رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يؤكد أن الورع منزلة من أشرف المنازل

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يؤكد أن الورع منزلة من أشرف المنازل


رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يؤكد أن الورع منزلة من أشرف المنازل
بقلم / المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن الْوَرَعُ مَنْزِلَةٌ مِنْ أَشْرَفِ الْمَنَازِلِ، وَمَرْتَبَةٌ مِنْ أَرْقَى الْمَرَاتِبِ، لَا يَبْلُغُهَا إِلَّا مَنْ صَفَا قَلْبُهُ، وَزَكَتْ نَفْسُهُ، وَخَشِيَ رَبَّهُ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. هُوَ تَاجُ الْأَخْلَاقِ، وَحَارِسُ الإِيمَانِ، وَجُنَّةُ الْقَلْبِ مِنَ التَّلَوُّثِ بِالشُّبُهَاتِ، وَهُوَ الْمِصْفَاةُ الَّتِي تُنَقِّي الْعَمَلَ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ، وَتَرْبُطُ الْعَبْدَ بِخَالِقِهِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ.
وَالْوَرَعُ مِنَ الْمَقَامَاتِ الْعَالِيَةِ فِي الدِّينِ، وَهُوَ مِنْ سِمَاتِ الصَّالِحِينَ وَالأَوْلِيَاءِ، وَلَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَحْرِصُونَ عَلَيْهِ أَشَدَّ الْحِرْصِ، لأَنَّهُ صِمَامُ الأَمَانِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الإِيمَانِ وَكَمَالِ التَّقْوَى.
وَخَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ أَهْلِ الإِيمَانِ، وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الإِحْسَانِ، إِنَّهَا "الْوَرَعُ". هَذِهِ الْكَلِمَةُ الَّتِي قَدْ لَا يَسْمَعُهَا الْبَعْضُ إِلَّا نَادِرًا، أَوْ يَظُنُّهَا الْبَعْضُ الآخَرُ خَاصَّةً بِفِئَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ النَّاسِ، أَوْ يَعْتَبِرُهَا الْبَعْضُ نَوْعًا مِنَ التَّشَدُّدِ وَالتَّعْقِيدِ. وَلَكِنَّ الْحَقِيقَةَ أَيُّهَا الْكِرَامُ، أَنَّ الْوَرَعَ لَيْسَ إِلَّا تَرْجَمَةً عَمَلِيَّةً صَادِقَةً لِمُقْتَضَيَاتِ الإِيمَانِ، وَحِصْنًا مَنِيعًا يَقِي صَاحِبَهُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَهَالِكِ، وَدَلِيلًا عَلَى صِدْقِ خَوْفِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
إِنَّ الْوَرَعَ لَيْسَ مُجَرَّدَ كَلَامٍ يُقَالُ، بَلْ هُوَ حَالٌ يُعَاشُ، وَسُلُوكٌ يُرَى، وَطَرِيقٌ يُسْلَكُ. إِنَّهُ الرَّكِيزَةُ الأَسَاسِيَّةُ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا التَّقْوَى، وَالْمِيزَانُ الَّذِي يُضْبَطُ بِهِ الإِنْسَانُ خُطُوَاتِهِ فِي الْحَيَاةِ، فَلَا يَقَعُ فِي الشُّبُهَاتِ خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ.
⚫ مَعْنَى الْوَرَعِ... جُذُورُهُ اللُّغَوِيَّةُ وَالاصْطِلَاحِيَّةُ.
إِنَّ فَهْمَ أَيِّ مُصْطَلَحٍ شَرْعِيٍّ يَبْدَأُ مِنْ فَهْمِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، ثُمَّ مَعْنَاهُ الاصْطِلَاحِيِّ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ.
● الْوَرَعُ لُغَةً:
• مَأْخُوذٌ مِنَ الْفِعْلِ "وَرِعَ" أَيْ كَفَّ وَانْتَهَى وَامْتَنَعَ، وَيُقَالُ: "وَرِعَ عَنِ الشَّيْءِ" أَيْ اجْتَنَبَهُ وَتَجَنَّبَهُ. فَالْوَرَعُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْكَفُّ وَالامْتِنَاعُ عَنِ الشَّيْءِ. وَالْوَرَعُ: التَّقْوَى.
● الْوَرَعُ اصْطِلَاحًا:
• هُوَ اجْتِنَابُ مَا قَدْ يَجُرُّ إِلَى الْحَرَامِ، وَتَرْكُ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي يُخْشَى أَنْ تَكُونَ ذَرِيعَةً لِلْمُحَرَّمَاتِ، وَالابْتِعَادُ عَنِ الشُّبُهَاتِ صِيَانَةً لِلدِّينِ وَالْعِرْضِ. فَـ"الْوَرَعُ تَرْكُ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ".
وَلَقَدْ تَعَدَّدَتْ تَعْرِيفَاتُ الْعُلَمَاءِ لِلْوَرَعِ، وَكُلُّهَا تَصُبُّ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، هُوَ: "تَرْكُ مَا يَضُرُّ فِي الآخِرَةِ". فَالْوَرَعُ هُوَ: الإِمْسَاكُ عَمَّا قَدْ يَضُرُّ، فَتَدْخُلُ فِيهِ الْمُحَرَّمَاتُ وَالشُّبُهَاتُ، لأَنَّهَا قَدْ تَضُرُّ، فَإِنَّ مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ.
مجموع الفتاوى (10/ 615).
وَقِيلَ:
* "الْوَرَعُ: هُوَ الْكَفُّ عَنِ الشُّبُهَاتِ".
* "الْوَرَعُ: هُوَ الْخُرُوجُ مِنْ كُلِّ مَا فِيهِ شُبْهَةٌ".
فَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الْوَرَعَ هُوَ تَرْكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِيمَا بِهِ بَأْسٌ. وَهُوَ دَرَجَةٌ فَوْقَ التَّقْوَى، فَالتَّقْوَى هِيَ تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ، بَيْنَمَا الْوَرَعُ هُوَ تَرْكُ الشُّبُهَاتِ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ.
⚫ أَدِلَّةُ الْوَرَعِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ:
إِنَّ الْوَرَعَ لَيْسَ مُجَرَّدَ فِكْرَةٍ أَوْ نَظَرِيَّةٍ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَكَّدَتْ عَلَى فَضْلِهِ وَأَهَمِّيَّةِ التَّحَلِّي بِهِ.
● مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:
إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ "الْوَرَعِ" صَرَاحَةً، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ بِمُقْتَضَيَاتِهِ وَحَثَّ عَلَى أَسْبَابِهِ وَنَتَائِجِهِ.
* الأَمْرُ بِالتَّقْوَى: قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]. وَالْوَرَعُ هُوَ مِنْ أَعْلَى دَرَجَاتِ التَّقْوَى.
* التَّحْذِيرُ مِنَ الشُّبُهَاتِ: قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36]. وَالْوَرَعُ هُوَ الْكَفُّ عَنِ الْخَوْضِ فِيمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ.
* الأَمْرُ بِالابْتِعَادِ عَنِ الظَّنِّ السَّيِّئِ: قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: 12]. وَالْوَرَعُ هُوَ الْكَفُّ عَنِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ وَالْبُعْدُ عَنِ الْخَوْضِ فِي أَعْرَاضِهِمْ.
● مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:
إِنَّ السُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ هِيَ الْمَصْدَرُ الثَّانِي لِلتَّشْرِيعِ، وَلَقَدْ جَاءَتْ نُصُوصُهَا صَرِيحَةً وَوَاضِحَةً فِي فَضْلِ الْوَرَعِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ.
* حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: وَهُوَ أَشْهَرُ حَدِيثٍ فِي بَابِ الْوَرَعِ، رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ». صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ بِرَقْمِ (52)، وَصَحِيحُ مُسْلِمٍ رَقْمِ (1599) وَاللَّفْظُ لَهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي بَابِ الْوَرَعِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُقُوعَ فِي الشُّبُهَاتِ مَدْخَلٌ لِلْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ.
* وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَضْلُ الْعِلْمِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكُمُ الْوَرَعُ». (1/ 283) رَقْمُ (320) وَقَالَ مُحَقِّقُهُ: الْحَدِيثُ عِنْدِي أَنَّهُ حَسَنٌ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ فِي صَحِيحِ الْجَامِعِ، بِرَقْمِ (4214).
* وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: حَفِظْتُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ». رَقْمُ (5711) وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ فِي صَحِيحِ سُنَنِ النَّسَائِيِّ (3/ 1153) رَقْمِ (5269).
* وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ فَقَالَ: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ». رَقْمُ (2553).
* حَدِيثُ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ: عَنْ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ صِفَةِ الْقِيَامَةِ، بَابٌ مِنْهُ، بِرَقْمِ (2451)، وَقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ". وَابْنُ مَاجَهْ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ، بَابُ الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى، بِرَقْمِ (4215). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ (17/168) (446) بِاخْتِلَافٍ يَسِيرٍ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يُؤَكِّدُ أَنَّ الْوَرَعَ هُوَ الدَّرَجَةُ الْعُلْيَا مِنَ التَّقْوَى، وَأَنَّهُ بِتَرْكِ مَا لَا بَأْسَ بِهِ، يَقِي الإِنْسَانُ نَفْسَهُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا بِهِ بَأْسٌ.
⚫ أَهَمِّيَّةُ الْوَرَعِ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ
● الْوَرَعُ مِنْ صِفَاتِ الصَّالِحِينَ:
• قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ﴾ [الحج: 30]، وَالتَّعْظِيمُ هُنَا يَتَضَمَّنُ الْوَرَعَ عَنْ كُلِّ مَا يَمَسُّ هَذِهِ الْحُرُمَاتِ.
● الْوَرَعُ سَبَبٌ لِرِضَا اللَّهِ:
• عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ». صَحِيحُ مُسْلِمٍ، رَقْمُ: 2965 شُعَبُ الإِيمَانِ رَقْمُ (7/3354) وَالتَّقْوَى لَا تَكْتَمِلُ إِلَّا بِالْوَرَعِ.
● الْوَرَعُ صِيَانَةٌ لِلدِّينِ وَالْعِرْضِ:
• فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (52) وَمُسْلِمٌ (1599) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ...».
⚫ مَرَاتِبُ الْوَرَعِ
● الْمَرْتَبَةُ الأُولَى: الْوَرَعُ عَنِ الْحَرَامِ الصَّرِيحِ
• وَهُوَ اجْتِنَابُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 3].
● الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَرَعُ عَنِ الشُّبُهَاتِ
• وَهُوَ اجْتِنَابُ مَا فِيهِ شُبْهَةٌ أَوْ رِيبَةٌ، وَلَوْ لَمْ يَتَأَكَّدْ تَحْرِيمُهُ، عَمَلًا بِحَدِيثِ «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ (2518)، وَأَحْمَدُ (1723) وَاللَّفْظُ لَهُمَا، وَالنَّسَائِيُّ (5711) مُخْتَصَرًا.
● الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَرَعُ عَنِ الْمُبَاحِ الَّذِي يُخْشَى أَنْ يَجُرَّ إِلَى الْحَرَامِ
• مِثْلُ الإِكْثَارِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُبَاحِ الَّذِي قَدْ يَقُودُ إِلَى الْغِيبَةِ أَوِ الْكَذِبِ.
● الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: الْوَرَعُ عَنْ فُضُولِ الْمُبَاحَاتِ طَلَبًا لِلْكَمَالِ
• وَهُوَ وَرَعُ الصِّدِّيقِينَ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنَ الدُّنْيَا، طَلَبًا لِسَلَامَةِ الْقَلْبِ.
⚫ أَنْوَاعُ الْوَرَعِ وَدَرَجَاتُهُ:
إِنَّ الْوَرَعَ لَيْسَ عَلَى دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ هُوَ دَرَجَاتٌ وَمَقَامَاتٌ، تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ حَالِ الْعَبْدِ وَصِدْقِهِ وَإِيمَانِهِ.
* الْوَرَعُ الْوَاجِبُ: وَهُوَ تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ الْقَطْعِيَّةِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الشَّرْعُ. وَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. وَهَذَا هُوَ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْوَرَعِ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ فَقَدْ وَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَهَذَا هُوَ الْحَدُّ الأَدْنَى مِنَ التَّقْوَى.
* الْوَرَعُ الْمُسْتَحَبُّ: وَهُوَ تَرْكُ الشُّبُهَاتِ الَّتِي لَمْ يَتَبَيَّنْ حُكْمُهَا عَلَى وَجْهِ الْيَقِينِ، خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ. وَهَذَا هُوَ الْوَرَعُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُثْنَى عَلَى صَاحِبِهِ وَيُمْدَحُ. وَالْوَرَعُ الْمُسْتَحَبُّ يَكُونُ طَلَبًا لِزِيَادَةِ الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ.
● وَرَعُ الْخَاصَّةِ (وَرَعُ الصِّدِّيقِينَ وَالْعَارِفِينَ)
• وَهُوَ تَرْكُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، حِفَاظًا عَلَى الْوَقْتِ وَالْعُمْرِ. وَوَرَعُ الصِّدِّيقِينَ وَالْعَارِفِينَ: يَكُونُ بِتَرْكِ مَا لَا بَأْسَ بِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ إِلَى مَا بِهِ بَأْسٌ. وَهُوَ تَرْكُ الْفُضُولِ وَالتَّوَسُّعِ فِي الْمُبَاحَاتِ، خَشْيَةَ أَنْ يَجُرَّهُ ذَلِكَ إِلَى مَا يَكْرَهُ اللَّهُ. وَهَذَا هُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْوَرَعِ.
● وَرَعُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ
• وَهُوَ تَرْكُ كُلِّ مَا يَشْغَلُ الْقَلْبَ عَنِ اللَّهِ وَلَوْ كَانَ مُبَاحًا، طَلَبًا لِلْمُشَاهَدَةِ وَالْمَحَبَّةِ.
⚫ مَجَالَاتُ الْوَرَعِ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ:
إِنَّ الْوَرَعَ لَيْسَ مُقْتَصِرًا عَلَى مَجَالٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ هُوَ شَامِلٌ لِكُلِّ جَوَانِبِ حَيَاةِ الْمُسْلِمِ، فِي عِبَادَاتِهِ، وَمُعَامَلَاتِهِ، وَأَقْوَالِهِ، وَأَفْعَالِهِ.
● الْوَرَعُ فِي الْعِبَادَاتِ:
• الْوَرَعُ فِي الصَّلَاةِ: بِأَنْ يُؤَدِّيَهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، وَيَحْرِصَ عَلَى الْخُشُوعِ فِيهَا، وَيَتَجَنَّبَ كُلَّ مَا يُفْسِدُهَا أَوْ يُنْقِصُ ثَوَابَهَا مِنْ حَرَكَاتٍ لَا لُزُومَ لَهَا، أَوِ الْتِفَاتٍ بِالْقَلْبِ أَوِ الْبَصَرِ.
• الْوَرَعُ فِي الصِّيَامِ: بِأَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ كُلِّ مَا يَجْرَحُ الصِّيَامَ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، فَكَمَا يَصُومُ الْبَطْنُ، تَصُومُ الْجَوَارِحُ.
• الْوَرَعُ فِي الْحَجِّ: بِأَنْ يَتَجَنَّبَ الرَّفَثَ وَالْفُسُوقَ وَالْجِدَالَ فِي الْحَجِّ، وَأَنْ يَكُونَ حَجُّهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى.
● الْوَرَعُ فِي الْمُعَامَلَاتِ:
• الْوَرَعُ فِي الْمَالِ: وَهُوَ مِنْ أَهَمِّ مَجَالَاتِ الْوَرَعِ، بِأَنْ يَتَحَرَّى الْمُسْلِمُ فِي كَسْبِهِ وَإِنْفَاقِهِ، فَلَا يَأْكُلُ مِنْ حَرَامٍ، وَلَا يَقْبَلُ رِشْوَةً، وَلَا يَتَعَامَلُ بِالرِّبَا، وَلَا يَأْكُلُ مَالَ الْيَتِيمِ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَقَالَ وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ: وَلَوْ قُمْتَ مَقَامَ هَذِهِ السَّارِيَةِ لَمْ يَنْفَعْكَ شَيْءٌ حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَدْخُلُ فِي بَطْنِكَ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ.
وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِمَامَ الْوَرِعِينَ، فَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنِّي لأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا». الْبُخَارِيُّ رَقْمُ (2432)، وَمُسْلِمٌ رَقْمُ (1070).؛ لأَنَّ الصَّدَقَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ.
وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَقْتَفُونَ أَثَرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَتْبَعُونَ سُنَّتَهُ، فَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ لأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ». رَقْمُ (3842).
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ - يَعْنِي عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: «كَانَ فَرَضَ لِلْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ فِي أَرْبَعَةٍ، وَفَرَضَ لِابْنِ عُمَرَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَخَمْسَمِئَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: هُوَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَلِمَ نَقَصْتَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا هَاجَرَ بِهِ أَبَوَاهُ. يَقُولُ: لَيْسَ هُوَ كَمَنْ هَاجَرَ بِنَفْسِهِ». رَقْمُ (3912).
وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «تَرَكْنَا تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْحَلَالِ مَخَافَةَ الرِّبَا». مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (8/ 152) رَقْمُ (14683).
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: «لأَنْ أَرُدَّ دِرْهَمًا وَاحِدًا مِنْ شُبْهَةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِئَةِ أَلْفٍ».
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ تُسْرَجُ لَهُ الشَّمْعَةُ مَا كَانَ فِي حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا فَرَغَ أَطْفَأَهَا، وَأَسْرَجَ عَلَيْهِ سِرَاجَهُ، وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ يَوْمًا: «عِنْدَكِ دِرْهَمٌ أَشْتَرِي عِنَبًا؟ قَالَتْ: لَا. قَالَ: فَعِنْدَكِ فُلُوسٌ؟ قَالَتْ: لَا، أَنْتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى دِرْهَمٍ. قَالَ: هَذَا أَهْوَنُ مِنْ مُعَالَجَةِ الأَغْلَالِ فِي جَهَنَّمَ».
• الْوَرَعُ فِي الْكَلَامِ: بِأَنْ يَمْتَنِعَ عَنِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْبُهْتَانِ، وَأَنْ يَتَجَنَّبَ الْخَوْضَ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ، وَأَنْ يَقُولَ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ أَوْ يَسْكُتَ.
* قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: "مَا رَأَيْتُ أَسْهَلَ مِنَ الْوَرَعِ، إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ أَمْرٌ، فَاجْتَنِبْهُ".
● الْوَرَعُ فِي الْعَادَاتِ وَالطَّبَائِعِ:
• الْوَرَعُ فِي النَّظَرِ: بِأَنْ يَغُضَّ بَصَرَهُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، فَلَا يَنْظُرَ إِلَى مَا يُثِيرُ الشَّهْوَةَ، وَلَا إِلَى عَوْرَاتِ النَّاسِ.
• الْوَرَعُ فِي الاسْتِمَاعِ: بِأَنْ يَتَجَنَّبَ الاسْتِمَاعَ إِلَى الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وَالْمُوسِيقَى الْمُحَرَّمَةِ، وَكُلِّ مَا يُفْسِدُ الْقَلْبَ.
• الْوَرَعُ فِي الأَكْلِ وَالشُّرْبِ: بِأَنْ يَتَجَنَّبَ الإِسْرَافَ وَالتَّبْذِيرَ، وَأَنْ يَأْكُلَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَأَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ كُلِّ مَا فِيهِ شُبْهَةٌ.
● وَالْوَرَعُ بَابُهُ وَاسِعٌ يَشْمَلُ الْوَرَعَ فِي النَّظَرِ، وَالسَّمْعِ، وَاللِّسَانِ، وَالْبَطْنِ، وَالْفَرْجِ، وَالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَيَكْثُرُ وُقُوعُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَالشُّبُهَاتِ، بِسَبَبِ تَخَلُّفِ هَذِهِ الأُمُورِ الثَّلَاثَةِ: الْوَرَعِ فِي اللِّسَانِ، وَالْبَطْنِ، وَالنَّظَرِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]. قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: «هُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ فِي الْقَوْمِ فَتَمُرُّ بِهِ الْمَرْأَةُ فَيُلْحِقُهَا بَصَرَهُ». الْوَرَعُ لِلْمَرْوَذِيِّ (ص111).
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ، أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ». صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ بِرَقْمِ (6477)، وَصَحِيحُ مُسْلِمٍ بِرَقْمِ (988) وَاللَّفْظُ لَهُ.، وَمَعْنَى «مَا يَتَبَيَّنُ» أَيْ: مَا يَتَفَكَّرُ فِيهَا، وَلَا يَتَأَمَّلُهَا هَلْ هِيَ خَيْرٌ أَوْ شَرٌّ؟
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قِصَّةِ الإِفْكِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْهَا، فَقَالَتْ: «أَحْمِي سَمْعِي، وَبَصَرِي، مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا»، قَالَتْ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ». صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ بِرَقْمِ (4750)، وَصَحِيحُ مُسْلِمٍ بِرَقْمِ (2770).
⚫ وَسَائِلُ اكْتِسَابِ الْوَرَعِ
● تَعْظِيمُ اللَّهِ وَمُرَاقَبَتُهُ
• قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق: 14].
● مَعْرِفَةُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ
• وَذَلِكَ بِالرُّجُوعِ لِلْعُلَمَاءِ وَسُؤَالِهِمْ.
● تَرْكُ الشُّبُهَاتِ
• كَمَا فِي حَدِيثِ «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ».
● صُحْبَةُ الْوَرِعِينَ
• فَإِنَّ الطِّبَاعَ تُسْرَقُ مِنْ بَعْضِهَا.
● كَثْرَةُ الدُّعَاءِ
• كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى». رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2721) وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ (3489).
⚫ ثَمَرَاتُ الْوَرَعِ وَفَوَائِدُهُ:
إِنَّ الْوَرَعَ لَيْسَ مُجَرَّدَ تَكْلِيفٍ أَوْ مَشَقَّةٍ، بَلْ هُوَ طَرِيقٌ إِلَى السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَلَهُ ثَمَرَاتٌ يَانِعَةٌ وَفَوَائِدُ جَمَّةٌ.
● الْفَوَائِدُ الدُّنْيَوِيَّةُ:
• طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ وَرَاحَةُ الْبَالِ: فَصَاحِبُ الْوَرَعِ لَا يَقَعُ فِي حَيْرَةِ الشُّبُهَاتِ، وَلَا يَخْشَى مِنْ عَاقِبَةِ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ.
● مَحَبَّةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ: لِحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ».
● سَلَامَةُ الْقَلْبِ وَنَقَاؤُهُ: قَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 88-89].
● الْهِدَايَةُ وَالتَّوْفِيقُ: قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69]، وَالْوَرَعُ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ لِلنَّفْسِ.
• حِفْظُ الدِّينِ وَالْعِرْضِ: فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، فَلَا يَقَعُ فِي مَا يَذُمُّهُ النَّاسُ بِسَبَبِهِ.
• الْبَرَكَةُ فِي الرِّزْقِ وَالْعُمُرِ: فَمَنْ تَحَرَّى الْحَلَالَ وَابْتَعَدَ عَنِ الْحَرَامِ، بَارَكَ اللَّهُ لَهُ فِي مَالِهِ وَعُمُرِهِ.
● الْفَوَائِدُ الأُخْرَوِيَّةُ:
• دُخُولُ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةُ مِنَ النَّارِ: فَالْوَرَعُ طَرِيقٌ لِلتَّقْوَى، وَالتَّقْوَى طَرِيقُ الْجَنَّةِ.
• نَيْلُ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ: فَاللَّهُ يُحِبُّ عَبْدَهُ الْوَرِعَ التَّقِيَّ.
• الإِجَابَةُ السَّرِيعَةُ لِلدُّعَاءِ: فَدُعَاءُ مَنْ أَكَلَ مِنَ الْحَلَالِ أَسْرَعُ إِجَابَةً.
⚫ الْوَرَعُ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّهَاوُنِ:
إِنَّ الْوَرَعَ أَمْرٌ مَحْمُودٌ، وَلَكِنَّهُ كَأَيِّ أَمْرٍ فِي الدِّينِ، قَدْ يَقَعُ فِيهِ الإِنْسَانُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ مَذْمُومَيْنِ: الإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ.
● خَطَرُ الْغُلُوِّ فِي الْوَرَعِ:
• التَّنَطُّعُ وَالتَّشَدُّدُ: بِأَنْ يَتَشَدَّدَ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ فِي أُمُورٍ لَا دَاعِيَ لِلتَّشَدُّدِ فِيهَا، فَيَجْعَلَ مِنَ الْمُبَاحِ مُحَرَّمًا، وَمِنَ السَّهْلِ صَعْبًا. وَهَذَا مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ».
• الْوَسْوَسَةُ: بِأَنْ يُوَسْوِسَ لَهُ الشَّيْطَانُ فِي كُلِّ أَمْرٍ، فَيَشُكَّ فِي طَهَارَتِهِ، وَصَلَاتِهِ، وَمُعَامَلَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ مَدَاخِلِ الشَّيْطَانِ لِلْعِبَادِ.
● خَطَرُ التَّهَاوُنِ فِي الْوَرَعِ:
• الاسْتِهَانَةُ بِالشُّبُهَاتِ: بِأَنْ يَسْتَهِينَ الإِنْسَانُ بِالشُّبُهَاتِ، وَيَخُوضَ فِيهَا بِلَا مُبَالَاةٍ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً، وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ لِلْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ.
• ضَعْفُ الإِيمَانِ: فَمَنِ اسْتَهَانَ بِالْوَرَعِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ إِيمَانِهِ وَعَدَمِ خَوْفِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
إِنَّ الْوَرَعَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْوَسَطِيَّةُ وَالاعْتِدَالُ، فَلَا هُوَ بِالتَّشَدُّدِ الَّذِي يَضُرُّ بِالدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلَا هُوَ بِالتَّهَاوُنِ الَّذِي يُورِدُ الْمَهَالِكَ.
إِنَّ الْوَرَعَ لَيْسَ إِلَّا تَعْبِيرًا عَنْ حُبِّ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ، وَتَرْجَمَةً عَمَلِيَّةً لِصِدْقِ الإِيمَانِ. فَلْنَحْرِصْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْوَرَعُ مَنْهَجَ حَيَاةٍ، وَسِمَةً مِنْ سِمَاتِنَا، وَأَنْ نَتَرَبَّى عَلَيْهِ، وَنُرَبِّيَ أَبْنَاءَنَا عَلَيْهِ، لِيَكُونَ لَنَا حِصْنًا مَنِيعًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَعَاصِي، وَطَرِيقًا مُضِيئًا إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

وَلْنَعْلَمْ أَنَّ الْوَرَعَ لَيْسَ شِعَارًا يُرْفَعُ، وَلَا كَلِمَةً تُقَالُ، بَلْ هُوَ عَمَلٌ دَقِيقٌ يُلَازِمُ الْقَلْبَ وَالْجَوَارِحَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى صَفَاءِ الإِيمَانِ وَقُوَّةِ الْمُرَاقَبَةِ لِلَّهِ. وَمَنْ عَاشَ وَرِعًا عَاشَ مَحْفُوظًا، وَمَنْ تَسَاهَلَ فِي الْوَرَعِ تَدَرَّجَ بِهِ الشَّيْطَانُ إِلَى الْمَهَالِكِ. فَلْنُحْيِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ فِي حَيَاتِنَا، وَلْنَجْعَلْهَا سُلُوكًا يَوْمِيًّا، حَتَّى نَلْقَى اللَّهَ وَهُوَ رَاضٍ عَنَّا. 

اكتب تعليق

أحدث أقدم