بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن الإسلام هو دين الإنسانية في أرقى صورِها، وهو النموذج الأسمى للعلاقات الاجتماعية بين البشر؛ فعنوانه التعارف بين البشر على أساس مِن المساحات المُشتركة التي لا تضرُّ الآخر؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ [الحجرات: 13]، وحينما أشرقَت شمس الإسلام على البشرية شجَّع كلَّ الأخلاق الفاضلة التي كانت موجودة في الجاهلية؛ مثل: الوفاء بالوعد، والكرم، ونصرة المظلوم، والشجاعة في الحق، كما حرَّم كل عادات السوء التي كانت مُنتشِرَة وقتئذٍ؛ مثل: شرب الخُمور، ووأد البنات، والزِّنا، والتعامل بالربا، والعصبية الجاهلية التي تقوم بسببها الحروب أعوامًا، وغير ذلك.
إنَّ الدين الإسلامي ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم يتعرَّضان لحملة شعواء منظمة، الهدف الأول منها: الإساءة إلى هذا الدين وإلى كل مُنتسبٍ إليه، ويبدو ذلك جليًّا في صورة رسومات مُسيئة، أو أعمال درامية، أو كتب مطبوعة، أو تقارير ملفقة، تؤصِّل عند الناس الخوف من الإسلام، وأنه دين القتْل والدَّمار، وأنه قائم على التصادُم لا التعايش، وأنه جاء لخَراب العالَم لا لعَمارِه.
دين كامل:
نقولها وبكل فخر: إنَّ الله تعالى أنعم على هذه الأمة بإكمال دينِها، وإتمام النِّعمة عليها، وهو فضْل لم تَسبِق إليه أمَّةٌ قبلها، فهي لا تحتاج إلى نبيٍّ بعده صلى الله عليه وسلم، ولا إلى دينٍ غير الإسلام؛ قال الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، قال الإمام أحمد - رحمه الله -: حدَّثَنا جعفر بن عَوْن، حدَّثنا أبو العُمَيْس، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل مِن اليهود إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرؤون آيةً في كتابكم، لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: وأيُّ آية؟ قال: قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي... ﴾ الآية، فقال عمر: "والله، إني لأعلم اليوم الذي نزلَت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والساعة التي نزلتْ فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزلت عَشية عَرَفَة في يوم جمعة".
ولقد قام المنهج الإسلامي على احتِرام الآخَر وإقرار الأمن والأمان والسلم الاجتماعي في العالم كلِّه؛ لأنه لم يأتِ لطائفة دون أُخرى، أو لأصحاب لغة أو لهجة دون سائر الناس، فالهدف الأسمى مِن هذه الرسالة تحقيق العدالة بين بني البشَر، ومعها تتحقَّق السَّعادة المنشودة المادية منها والروحية، وتتحقَّق خِلافة الأرض على الوجه الأكمل كما يرتضيه ربُّ العالَمين، وبيَّنه في قوله تعالى: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30]، ونؤكِّد على أنَّ الخلافة الحقة لله في أرضه لن تتحقَّق إلا بالفهم الصحيح لأوامر الله تعالى، وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم.
تعامل الإسلام مع الآخر:
حفل الإسلام بالدعوة إلى التسامُح منذ بزوغ فجرِه، كما دعت المؤسسات الأممية إلى السِّلم الدولي، ولكن الدعوات ليسَت كل شيء، فكم مِن دعوات لم تتحقَّق، وكم مِن مبادئ نودي بها ولم يرَ أحدٌ لها أثرًا؛ لأنَّ التطبيق العمَليَّ شيء، والبيان النظري شيء آخر، ولأنَّ الدعاة ما بين صادقين مُخلِصين يُريدون الخير للبشرية، وكاذبين مموِّهين لا يَبغون مِن وراء ذلك إلا الخِداع والتضليل، وما زال العالم يَذكر مبادئ "ولسون" الأربعة عشر بعد الحرب العالمية الأولى 1914 / 1918، والتي كان أول مبدأ فيها أن تقوم العلاقات الدولية على مواثيق سلام عامة، وتكون المُعاهَدات الدولية علنيَّة وغير سريَّة، كما تضمَّنت احترام الشعوب لبعضها البعض وحقها في العيش بسلام، ونبذ الحروب وغير ذلك، ولكن.... هل تحقَّق منها شيء؟! فالنزاعات قائمة، والقَتْلى كل دقيقة، والظلم الاجتماعي على مستوى العالم موجود، فقد ذهبت مبادئهم أدراج الريح، أما الإسلام فقد قام على التسامُح قولاً وعملاً، وبين كيفية التعامُل مع غير المسلمين، ووضح ذلك وأقر لهم حقوقًا، وألزمهم واجِبات في مقدورِهم أداؤها، فحفظ الإسلام دماءَ وأعراضَ وأموالَ غير المُسلمين ما داموا بعيدين عن التآمُر والفتنة والدسيسة والكيد للمُسلمين.
إنَّ الناظر إلى الإسلام وسماحته يجد أنه يسوِّي بين البشر جميعًا في الحقوق والواجِبات، ويُطالب بأن يَتعاون كل أفراد الأمة ضد الظلم والإثم والعُدوان، كما نادى الإسلام بالحِفاظ على حُقوق مَن أراد العيش مع المسلمين مسالمًا متعاونًا، وأمر الإسلام بالامتناع عن ظلمه والبغي عليه، كما أمر ألا يُؤخَذ إنسان بذنب غيره؛ حيث يقرِّر ذلك في وضوح في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 111].
صور فعلية:
حرص الإسلام كلَّ الحرص على أن يَبتعِدَ عن الصدام والنزاع مع الآخَر، حتى ولو تحمَّل أتباعُه بعض الجور والظلم، وهذا ليس من مُنطلَق ضعف أو خوف؛ إنما مِن أجل الرغبة في التعايش مع الآخر، فرسالتُه - بالدرجة الأولى - تهدف إلى إرساء قواعد الأخلاق، وحسن العشرة والمُخالَطة مع المخالفين قبل الموالين، وهاكم النماذج العملية لهذه المعايشة وذاك التسامح:
اشترطت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية شروطًا قاسية، اعترف بجورها كلُّ مَن عَلِمها، وثارت ثائرة جلِّ الصحابة لها، ويَكفي هذا الشرط الذي يقضي بأن مَن جاء مِن عند محمد إلى قريش لا تردُّه، ومَن جاء مِن عند قريش إلى محمد يردُّه، ووافق النبي صلى الله عليه وسلم، وما كادوا ينتهون من توقيع المُعاهَدة حتى جاء أول امتحان للوفاء؛ فقد فرَّ أبو جندل مِن أذى قومه، وجاء ليلحق بالمسلمين في المدينة، لكن الرسول الوفيَّ بالعهود صلى الله عليه وسلم سلَّمه إلى قومه رغم شدة الموقف ومرارته على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي جندل، إلا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم آثر الوفاء بالعهد على دخول فرد في عداد المسلمين؛ تجنُّبًا للصدام مع قومه رغم شِركهم وكُفرِهم، هل بعد هذا من حسن رغبة في التعايُش والسلام مع الآخر؟!
ونَنتقِل إلى سيرة الفاروق عمر رضي الله عنه بعد أن فتح بيت المقدس وبها كنائس النصارى، وحان وقت الصلاة وهو في كنيسة القيامة، فطلب أحد كبار بطارقتهم أن يصلي بالمسلمين في الكنيسة، ورفض عمر؛ حتى لا يأخذها المسلمون بعده ذريعة ليُحوِّلوها إلى مسجد.
إنَّ مِن قمَّة حسن تعايُش الإسلام مع الآخر أنه لم يفرِّق بين المسلم والذمي في المعاملات العامة؛ لأنَّ الجميع سواسية أمام القانون، لا تفضيل ولا مُحاباة، حتى وإن كان أحد الخصمين مسلمًا، والآخر يهوديًّا أو نصرانيًّا؛ فقد شكا يهوديٌّ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال لعليٍّ: قم يا أبا الحسن واجلس بجوار خصمِك، ففعل عليٌّ وعلى وجهه علامات التأثُّر التي لاحَظَها عمر، فلما فصَل عُمر في القضية قال لعليٍّ: أكرهتَ أن تُساوي خصمك؟! قال: لا، لكني تألَّمتُ لأنك ناديتَني بكُنيَتي، فلم تسوِّ بيننا، ومعلوم أنَّ الكنية للتعظيم، فخشيتُ أن يظنَّ اليهودي أن العدل ضاع بين المسلمين.
فرق شاسع:
محمد صلى الله عليه وسلم يردُّ رجلاً بعد إسلامه، وعمر رضي الله عنه يرفض الصلاة في الكنيسة حفاظًا عليها، وعليٌّ يرفض الكنية لئلا يَفهمها الخصم نوعًا مِن المُحاباة، والآن إذا قلَّبت النظر يمينًا ويسارًا وجدتَ الإسلام والمسلمين يتعرَّضون لشتى أنواع الظُّلم الاجتماعي؛ فالحقوق مهضومة، والأعراض مُنتهَكة، والمقدَّسات تتعرَّض للهدم تارة، والإحراق تارة، والتدنيس تارةً أخرى، والمتابع لأخبار إفريقيا الوسطى، وميانمار، وبورما تتبيَّن له هذه الحقائق بجلاء، فأين - إذًا - السلم الاجتماعي الدولي الذي ينادون به؟ وأي حقوق تَحرُسُها تلك المؤسَّسات الدولية؟! اللهمَّ إلا إذا كان الحق يتعلق بغير المسلمين، فيومها الأصوات تَعلو، والنداءات تتوالى، والشجب والاستنكار على أشده.
إنَّ الغرب يربط دائمًا بين الإسلام والإرهاب، ويَعتبرونهما وجهين لعملة واحدة، وساعد على ترسيخ هذا المعنى السياسة الإعلامية التي يَتبعها الغرب؛ فهو يصوِّر المسلم لدى عامة الغربيين على أنه شيطان، أينما حلَّ يحلُّ معه الخَراب والتدمير والقتْل، ولشدَّة تأثير سلاح الإعلام يصدق الكثير تلك الأفكار، ويَفزعون من المسلمين، ومِن شيءٍ اسمُه الإسلام، وبالتالي ترتَّب عليه التضييق في كل شيء حتى وصل إلى دُور العبادة، فلا يكاد يُسمَح في بعض البلدان بالجهر بالصلاة، ولا يُسمَح لهم بإنشاء مساجد جديدة، أو حتى ترميم التالف منها! إنه الكيل بمكيالين، والنظرة غير المُحايدة، وكل ذلك يؤجِّج فكرة "هنتنجتون"، التي يؤكِّد فيها على صراع الحضارات وليس تعايُش الحضارات.
هل هناك إمكانية للتعايش في وقتنا الحالي؟
كما أسلفنا القول فإنَّ المشكلة ليست في الإسلام ولا في المسلمين، بل في المجتمع الغربي الذي يُحاول إقناع نفسه بخطورة الإسلام على أفراده، ولكن يَنبغي عليهم العلم بأن الإسلام دين يدعو الناس جميعًا إلى كلِّ فضيلة، ويحثُّهم على اجتِناب كل رذيلة، كما يدعو إلى البُعد عن ويلات الحروب، واجتِناب ما يثير العداوات والأحقاد، وعلى المسلمين دور كبير في إظهار صورة الإسلام الناصعة التي لا يعكِّر صفوَها تصرف فردي ممن ينتسب إليه، وهي مهمة ليسَت باليسيرة في ظل الصراعات الدولية القائمة، والنزاعات التي يَضيع معها كل جهد مَبذول، ولكننا لا نفقد الأمل أبدًا، وكلٌّ منا عليه دور، لا أقصد احتجاجات أو علوَّ أصوات، إنما أقصد حُسنَ خُلقٍ يُظهر عنوان الرسالة المحمدية: ((إنما بُعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق))؛ رواه البزار عن أبي هريرة، وصحَّحه الألباني، وفي رواية أحمد عن أبي هريرة: ((إنما بُعثت لأتمِّم صالِح الأخلاق))، هذه الأخلاق التي إن غابت عن مجتمعٍ ما فإن كل رذيلة تحلُّ فيه، وتُصبح علاقات الناس بعضهم ببعض على أساس من المادة لا غير.
ولا نَستطيع إغفال الدور المؤسسي للمُنظَّمات والهيئات الإسلامية وسفارات الدول المسلمة، التي يَنبغي عليها أن تبذل ما في وسعها لنُصرة ديننا الحنيف.
إرسال تعليق