بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه ان الروح اليهودية هنا لا علاقة لها بالحروب في الإسلام، ولعلنا عندما نتتبع حروب أنبياء بني إسرائيل - عليهم السلام - من أمثال يشوع وداود وسليمان، نعرف كيف أن رجالاً من أمثال بن جوريون ونتنياهو وشارون يتعاملون مع الفلسطينيين بهذه الإبادة الجماعية، وبهذه الأساليب غير الإنسانية - إنما يتمثلون ذلك الذي جاء في التوراة، ويرون أن الحقوق الإنسانية محصورة في اليهود وحدهم.
لكن الروح العسكرية الإسلامية تختلف تمامًا عن هذه الروح التي يبثها العهد القديم عبر العصور، حتى انتهت بالبشرية إلى إنتاج أسلحة الدمار الشامل والحروب العالمية (هيروشيما وناغازاكي) التي أتت فيها القنابلُ الذرية على الأخضر واليابس والطفل والشيخ، إن رسول الإسلام محمدًا (وعلى خطاه مضت الفتوحُ الإسلامية حتى صلاح الدين الأيوبي) كان يُوصي الجيوش بألا يقاتلوا إلا بعد أن يدْعوا أعداءهم إلى الإسلام، أو إبرام معاهدة سلام وعدم اعتداء، ثم عليهم أن يحموا أنفسهم وهم مستقلون في ذلك، أما إذا أرادوا أن يحميهم المسلمون - كشرط من شروط معاهدة السلام - فإن عليهم أن يدفعوا "الجزية" بدلاً من (الدفاع عنهم)، ولهم أن يطالبوا في أي وقت بإسقاط الجزية، والدفاع بالتالي عن أنفسهم؛ فالجزية ليست إلا (بدل تجنيد في الجيش - فدية جندية).
ومن وصايا الرسول الخطيرة التي لا وجود لمثلها في الأعراف والقوانين العسكرية، قولُه لمعاذ بن جبل ولعليِّ بن أبي طالب - في وصيتين متقاربتَي اللفظ والمعنى -: ((لا تقاتلوهم حتى تدْعوهم، فإن أبَوا فلا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم، فإن بدؤوكم فلا تقاتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلاً، ثم أَرُوهم ذلك القتيل، وقولوا لهم: هل إلى خير من هذا سبيل؟ فلأن يهديَ الله على يديك رجلاً واحدًا خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس وغربت))[1].
وقول النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في وصية عامة موجهة لجميع جيوشه: ((تألفوا الناس، وتأنوا بهم، ولا تُغِيروا عليهم حتى تدْعوهم، فما على الأرض من أهل مَدَر ووَبَر إلا أن تأتوني بهم مسلمين أحبُّ إلي من أن تأتوني بأبنائهم ونسائهم وتقتلوا رجالهم)).
ويعلِّق على هذه الوصية الدكتور علي عبدالواحد وافي قائلاً: "إنه بهذه الإجراءات الكريمة وما إليها يدل الإسلام على شدة حرصه على حقن الدماء، وإيثار السِّلم، وينأى بالمسلمين عن جميع مظانِّ الغدر والخيانة، وأخذ الأعداء على غرَّة، فيقي الناس ويلاتِ الحروب، وما ينجم عنها من نقص في الأنفس والأموال والثمرات، أو يخفف ما استطاع من هذه الويلات"[2].
ولقد كان من نتائج تعاليم الإسلام وآدابه في الحروب أنه بينما دفع الغالب والمغلوب في الحربين العالميتين (1914م) (1935م) ثمنًا باهظًا، فوقع نحو (167 مليونًا) بين قتيل وجريح ميئوس من شفائه، بينما لم يَزِد كل ضحايا غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحروبه ضد الشرك واليهود على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن (386) شخصًا من الفريقين (المؤمن والكافر)، و(الغالب والمغلوب)، وذلك خلال ثلاثة عشر عامًا، وخلال أكثر من ستين غزوة وسَرِيَّة، وهذا باستثناء الخونة خيانةً عظمى من الذين قُتلوا لخيانتهم للشريعة (للدستور والقانون الإسلامي)؛ من أمثال بني قريظة، (وهذا القتل هو عقوبتهم في كل القوانين الدولية).
ولعل أدنى مقارنة بين الطرفين تكشف حقيقة الوحشية الأوروبية في الحروب، وتكشف الحقيقة الإنسانية للإسلام في حروبه وفي سلمه!
ولئن كانت الحضارة الأوروبية والمنظمات الدولية قد انتهت إلى تقرير بعض الحقوق الخاصة بالجرحى وموتى الحروب، مع أنها هي التي اخترعت الحروب العالمية، كما أنها هي التي اخترعت أسلحةَ الدمار الشامل؛ لئن كان الأمر كذلك فإن مما لا شك فيه أن الرُّوح الإسلامية الحضارية هي التي أثَّرت في أوروبا قديمًا وحديثًا، وزرعت فيها أخلاقَ الفروسية، ونشرت بينها المستشفيات (البيمارستانات) وكتب الطب وأخلاق الطبيب، وإنسانيات الطب، كلها قد أثرت في التقدم البشري الذي انتهى إلى هذا المستوى الذي ألمحنا إليه، لقد سبق الإسلام كلَّ القوانين الدولية في حماية كرامة الإنسان، أن تصل إلى تقعيد (قانوني ونظري) لحقوق الموتى والجرحى والمرضى - من الأعداء في الحروب - (ويجب أن نعرف أن كلَّ ما تصل إليه البشرية في هذا المجال الخير يُقِره الفقهُ الإسلامي الدولي)، وقد عُقدت أخيرًا اتفاقية عامة لتحسين حالة جرحى الحرب، هي اتفاقية (جنيف) المبرمة سنة 1864، والمعدلة بمعاهدة 1906، ثم باتفاقية (27 يوليو سنة 1929)، وأخيرًا باتفاقية (12 أغسطس سنة 1949).
وقد أقرت هذه الاتفاقية مبدأ حماية الجرحى والمرضى الذين يصابون في ميدان القتال، وفرضت على قوات الدولة التي تسيطر على ميدان المعركة البحث عنهم وحمايتهم من أيِّ اعتداء أو معاملة سيئة، كما فرضت على الفريقين المتحاربين الاتفاقَ على وقف القتال الوقت الكافي لنقل الجرحى الموجودين في الميدان بين الخطوط، بقدر ما تسمح به الظروف الحربية.
ولسنا مبالغين إذا عزونا هذا التطور لتعاليم الإسلام، بل إننا صادقون كل الصدق حينما نقول: إن الإسلام كان أسبقَ من هذه القوانين من الناحية النظرية، وكان أصدق - الصدق كله - في الناحية العملية والتطبيقية التي تنقص الحضارة الحديثة، حضارة الشعارات والنظريات، أما الإسلام، فهو حضارة القول والفعل، وصدَق الله في كتابه الكريم: ﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 3].
________________________________________
[1] المبسوط، الجزء الأول 31، نقلاً عن (د. علي عبدالواحد وافي: حماية الإسلام للأنفس والأعراض، ص40 طبعة2، 1403 هـ، عكاظ، السعودية).
[2] انظر علي عبدالواحد: المرجع السابق ص 41.
إرسال تعليق