رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن سورة الإخلاص

رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن سورة الإخلاص



بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ[1] أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ[2] * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا[3] أَحَدٌ}
الفائدة الأولى: تتعلق بفضلها، إذ تعدلُ ثلثَ القرآن من حيث المعاني؛ عن أبي سعيد الخدري: أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ {قل هو الله أحد} يردِّدها، فلما أصبح جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، وكان الرجل يتقالُّها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده، إنها لتعدلُ ثلثَ القرآن))[4].
قال العلماء: القرآن أنزل أثلاثًا: ثلثًا منه أحكام، وثلثًا منه وعد ووعيد، وثلثًا منه أسماء وصفات، وقد جمَعت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أحدَ الأثلاث، وهو الأسماء والصفات، ودلَّ على هذا التأويل ما في "صحيح مسلم" من حديث أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن الله جزَّأ القرآنَ ثلاثةَ أجزاءٍ، فجعل (قل هو الله أحد) جزءًا من أجزاء القرآن))، قال القرطبي: وهذا نصٌّ، وبهذا المعنى سميت سورة الإخلاص، والله أعلم.
الفائدة الثانية: أن من أهم أبواب الدعوة في سبيل الله: تعريفَ الناس بالتوحيد، تلك الكلمة التي تطيش معها أي كفّة لو وزنت لا إله إلا الله؛ فعن عبدالله بن عمرو يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يصاح برجل من أمتي يومَ القيامة على رؤوس الخلائق، فينشر له تسعةٌ وتسعون سجلاًّ، كل سجل مدَّ البصر، ثم يقول الله - عز وجل -: هل تنكر من هذا شيئًا؟ فيقول: لا يا ربّ، فيقول: أظلمَتْك كتَبَتي الحافظون؟ ثم يقول: ألك عن ذلك حسنة؟ فيهاب الرجل، فيقول: لا، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسناتٍ، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، قال: فيقول: يا ربّ، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تُظلم، فتُوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة))[5].
الفائدة الثالثة: أن الله - تعالى - قد وصف نفسَه بخمس صفاتٍ، تشتمل على استحقاقه للألوهية والتفرد وحده بالعبادة؛ تفرده بالألوهية، تفرده بالصمدية، ليس له نهاية، وليست له بداية، ليس له مثيل، تفصيل ذلك على الوجه التالي :
أولاً: تفرده بالألوهية:
1) الله - سبحانه - لا يقبل أن يشرك به أحد، ولا يقبل من الأعمال إلا ما كان يقصد به وجهه خالصًا، فلا يقبلُ من الأعمال ما يقصد به غير الله - تعالى - فالرياء وحبُّ السمعة تفسدُ العملَ الصالحَ؛ قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]؛ لذا كان من المتعيَّن على العبد أن يقصد من أعماله الصالحة رضا الله وحده - سبحانه - إذ قال في كتابه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
2) والمسلم عليه أن يتحرَّى الإخلاصَ في كل أعماله، ويكون ذلك قبل البدء في العمل وأثناء العمل وبعده، فأما قبل العمل، فإنه يبحث في نيته هل يقصد من هذا العمل رضا الله فحسب، أم أنه يبتغي منه - فضلاً عن ذلك - مدحَ الناس والثناءَ عليه، فإذا وجد خللاً في نيته، فلا يصرفه ذلك عن الإقبال على عمله، وإنما يتعيَّن عليه أن يصححَ نيتَه ويجعلَها لله - تعالى - فحسب، ويجتهد في تحقيق ذلك؛ قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136].
3) أما أثناء العمل، فإن علامة إخلاصه أن يستمرَّ في عمله لله - تعالى - دون أن ينتظرَ الشكرَ والثناءَ من الناس، فلا يكونُ تشجيعُ الناس له سببًا في زيادة أعماله الصالحة، ولا ذمُّ الناس له سببًا في التقصير في تلك الطاعات، وإنما هو يبتغي وجهَ الله فحسب، لا غبارَ عليه أن يفرحَ بمدحِ الناس له، إذ لن يؤثرَ ذلك في إخلاصه - إن شاء الله - فعن أبي ذر قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيتَ الرجل يعملُ العملَ من الخير ويحمده الناسُ عليه؟ قال: ((تلك عاجل بشرى المؤمن))[6]، المهم ألا يكون ذلك سببًا في أن يغيرَ من طبيعة عمله، إلا إذا كان يتنافسُ على الخير لما يراه من غيره من إقبالٍ شديدٍ على الطاعة أفضل منه، فيكون التسابق على الأعمال الصالحة منهما محمودًا.
4) أما بعد العمل فإنه لا ينتظر الأجرَ من الناس؛ لأنه قد نال الثوابَ من الله؛ قال سبحانه: {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [هود: 51]، وهنا يجب الانتباهُ، فالمسلمُ الذي يخلص العمل لربِّه لا يظن آنذاك - في نفسه - أنه حقق الإخلاصَ؛ لأنه يظل يتحرَّى الصدقَ والإخلاصَ لله - تعالى - حتى ينالَ هذا الشرفَ، فكلَّما تحرَّى الإخلاصَ احتاج إلى مزيدٍ من الإخلاص، وهكذا كان شأن الصالحين.
كما كان ذلك هو شأن الصحابة - رضوان الله عليهم - فعن حنظلة الأسيدي قال - وكان من كتاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم -قال: لقيني أبو بكر، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنَّا رَأْيَ عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عافسْنا الأزواجَ والأولادَ والضيعات، فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله، إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وما ذاك؟)) قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنَّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده، إنْ لو تَدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فُرُشِكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلةُ، ساعةً وساعةً)) ثلاثَ مراتٍ[7]
5) والعمل الذي يشوبه الرياءُ أو عدمُ الإخلاص مردودٌ على صاحبه، لا يقبله الله - تعالى - قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]، وليت الأمر يقتصر على هذه العقوبة فحسب، بل إن هذا العملَ الذي أشرك فيه العبدُ حبَّ المدح والسمعة الحسنة من الناس يكون سببًا في دخوله النار؛ فعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استشهد، فأتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استشهدتُ، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقالَ: جريءٌ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجلٌ تعلَّم العلمَ وعلَّمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلَّمت العلم وعلَّمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلمَ ليقالَ: عالمٌ، وقرأتَ القرآنَ ليقالَ: هو قارئٌ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كلِّه، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تحب أن ينفقَ فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقالَ: هو جوادٌ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار))[8].
ثانيًا: تفرده بقضاء الحوائج للناس:
1) إذا كان الله - سبحانه - هو قصد الإنسان، فهو الذي يُلجأ إليه ويُستجار به، ويُستعان به ويتكل عليه، فهو المقصد في الدعاء، وهو المقصد في العبادة، وهو المقصد في كل حركة وسكنة للإنسان، فلا يصرف المؤمن أي عمل إلا لوجه الله - تعالى - ومن هنا تتحول عاداته إلى عبادة، لأنه لا يأكل إلا لكي يتقوى على عبادة الله، ولا ينام إلا لينال القسط من الراحة، الذي به يستطيع أن يستكمل يومًا آخرَ من العبادة بذات القوة والنشاط الذي بدأ به اليوم الفائت؛ لذا فإن صفة الصمدية التي وصف الله بها نفسه كفت الإنسان اللجوءَ لغيره والاحتياجَ لسواه، فإذا كان ذلك كذلك، فلماذا يلجأُ الإنسان لغير الله - تعالي - في طلب الحاجات؟
بمعنى آخر: لماذا يذهب الإنسان للسوق ليشتري الحاجات، ويذهب إلى المدرسة ليكتسب علوم الدنيا، ويذهب إلى العمل لكي يكسب المال ...إلخ؟ أليس الله - تعالى - هو قصدنا، وقد كفانا عن سؤال غيره؟ ألسنا نوحِّد الله - تعالى - ونعلم يقينًا أنه وحده هو الذي يقضي الحاجات فهو الصمد؟
2) أن المسلم لا بدَّ أن يتخذَ من الأسباب في الدنيا ما يتحصلُ به على اكتساب الطاعات، مع العلم يقينًا أن تلك الأسبابَ هي أسبابٌ شرعيةٌ وضعها المولي - سبحانه - ليتحقق بها الغايات الشرعية، ومن ثمَّ ينبغي - يقينًا - عدمُ الاعتماد على هذه الأسباب في جلب نتائجها، فالله - تعالى - قد سخَّرها لنا لتحقيق ذلك، مع تعلق القلب بالله - تعالى - فالله - تعالى - الذي سخر الأسبابَ وخلق لها وظيفتَها، وهو القادرُ على أن يعدمَها وظيفتَها تلك.
فمثلاً: المرءُ الذي يأكلُ لكي يتقوى على عبادة الله قد يصيبه المرض من هذا الطعام، ومن يطلب العلم في المدرسة قد يرسب؛ لأنه لم يستطع تحصيلَه بالاعتماد على معلِّميه؛ لذا فالله - تعالى - يعطي لهذه الأسباب قوتها وكفاءتها في تحقيق تلك الغايات، الأمر الذي يطرحُ سؤالاً: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا نعتمد على الأسباب أصلاً؟ ولماذا خلق الله - تعالى - لنا الأسباب؟ ولم يجعل الأمر في تحصيل تلك الغايات بمجرد الطلب منه - سبحانه - دون بَذْلِ الأسباب؟
يُجابُ على ذلك: بأنك أخي المسلم في دار الدنيا دار امتحان وابتلاء، أما دار الجزاء الآخرة الجنة - إن شاء الله - سوف تنال الطيبات دون أسباب؛ لأنها دار نعيم، فلا بدَّ لك في هذه الدار الدنيا أن تبذلَ الجهد والمشقة التي تحصل بها على قصدك، وهو مرضاة الله - تعالى - لذا قال سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]، فهو في {كَبَدٍ}؛ ليس لأنه يبذلُ هذا الجهدَ وهذه المشقةَ لكي يكتسب الأسباب، التي بتوجيهها لمرضاة الله يتحصل منها على رضاه، وهي نتائج الأعمال، وإنما كبد الإنسان وعناؤه في أمر آخر، وهو كونه بين الاعتماد على الأسباب بالكلية، وهنا يكون قد خسِر عقيدتَه وقصدَه لله - تعالى - وبين كونِه يأخذ بالأسباب وهو يعلم يقينًا أنها لا تغني بذاتها في تحصيل المراد، وإنما يتعيَّن عليه أن يوجِّه قصده لله - تعالى - مستعينًا به، طالبًا منه العون في تحقيق تلك الغايات الشرعية التي أمر بها.
3) وفي ذلك فائدةٌ أخرى، وهي أن الإنسان المؤمن يكون في راحة من أمره، لا يعاني كبدَ ومشقةَ تحصيلِ النتائج؛ لأنه باتكاله على الله بعد أن نفذ أمره - سبحانه - في الأخذ بالأسباب الشرعية - يكون قد حقق النتيجة الشرعية بصرف النظر عن النتيجة الكونية، فالنتيجة الشرعية هي رضا الله - تعالى - وتتحصل بتنفيذ أمره، مثلَ قوله - تعالى -: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]، فإذا أكلت الطيبات تنفيذًا لأمر الله - تعالى - تكون قد أطعته ونلت بذلك رضاه، وإن كان المقصد من ذلك هو أن تتقوى على عبادة الله – تعالى - إلا أنه قد حصل عكس ذلك بأن كان هناك داءٌ في هذا الطعام فمرضت بسببه، فإنك قد نجحت شرعًا، وإن لم تنجح كونًا؛ لأنك قد مرضت، فهذه هي إرادة الله - تعالى - التي ينبغي عليك أن تُسلم لها وترضى بها، وهذا المثال ينطبق كذلك في مذاكرة الطالب لدرسه، وتطبيب الطبيب لمريضه، وتأديب الأب لابنه، وكسب العامل رزقَه، وإرضاء المرأة زوجها ...إلخ، إذن عليك - أخي المسلم - أن تشغل بالَك بتحصيل الأسباب التي ترضي خالقك ورازقك وإلهك، ولا تشغل بالك بالنتائج التي يقدرها الله - تعالى.
ثالثًا: تفرده بالملك واستغنائه عن خلقه:
1) إن الله - سبحانه - غني عن الولد والوالد، فهو مستغن بنفسه عن خلقه، وهذا أمر بديهي للعقل البشري، إذ لو كان له ولد لكان ذلك دالاًّ على انتهاء عمره، لأن الولد يرث عن والده ويكمل مسيرة الحياة التي بدأها، إذن فلماذا يرغب الإنسان في الولد؟ الإنسان يتمنى أمورًا كثيرة في هذه الدنيا، فيحقق بعضها ويفشل في تحقيق البعض الآخر، لذا كان تمني الولد هو أمل أن يحقق هذا الولد ما لم يتمكن الأب من تحقيقه، إذ لو علم الأب أن ابنه سوف يكون فاشلاً في الحياة لما تمنى أن يولد، إنما هو يأمل في ابنه وولده أن يكون أفضل منه، ويرتقي أعلى المراتب، ويحقق نجاحًا باهرًا في حياته، قد يكون الأبُ قد عجز عن تحصيله، ولو استشعر الأب نجاحه في نفسه، فإنه كذلك يعلم علمًا يقينيًّا أن هذا النجاح سوف يتلاشى بعد وفاته، إذا لم يتمكن من توريثه لغيره، وخير من يرث هذا النجاح - سواءٌ في العلم أو المال أو السلطة ... إلخ - هو الابن.
فإذا نظرنا في هذه الأسباب وتأملنا فيها لعلمنا أن الله - تعالى - مستغن عنها بنفسه جميعًا، فهو - سبحانه - ليست له نهاية فهو الأول والآخر، وهو - سبحانه - لا يُورثُ، وإنما هو - سبحانه - يرث الأرض ومن عليها، فهو الوارث وليس الموروث، كما أنه - سبحانه - لا يعجز عن تحقيق شيء، فإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون.
2) كما يثور التساؤل: لماذا ليس لله والد؛ لذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لن يبرح الناس يتساءلون، حتى يقولوا هذا اللهُ خالقُ كلِّ شيء، فمن خلق الله؟))[9]، ولو كان لله والد، لكان والده أحقَّ بالعبادة منه؛ لأنه سبب وجوده والقائم على تربيته، فلما كان الله - سبحانه - مستغن عن الوالد والولد، استحق أن يكون إلهًا يعبد بحق دون سواه، وقد قصرت أفهام بعض الناس عن إدراك ذلك، والشرع يخاطبهم بما يعقلون.
لذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فمن وجد من ذلك شيئًا فليقل: آمنت بالله))[10]، وقال: ((فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينتهِ))[11]، وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوسوسة فقال: ((تلك محض الإيمان))[12]، إذن طالما أن الشيطان يحاول أن يوسوسَ للإنسان بذلك، فإنه يعلم أن في قلبه إيمانًا يريد أن يصرفه عنه، لذا كان على المؤمن أن يفقهَ ذلك، ويتمسكَ بدينه، ويصرفَ الوسوسة عن نفسه بالاستعاذة بالله - تعالى - وليطمئنَّ قلبُه ولا يخاف، إذ جاء ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم – فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظَمُ أحدُنا أن يتكلمَ به، قال: ((وقد وجدتموه؟)) قالوا: نعم، قال: ((ذاك صريح الإيمان))[13].
قال النووي: معناه: أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيِس من إغوائه، فينكد عليه بالوسوسة، لعجزه عن إغوائه، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيثُ شاء، ولا يقتصر فى حقِّه على الوسوسة، بل يتلاعبُ به كيف أراد، أما إذا استمرَّت الوسوسة، فقد قسم الإمام النووي الخواطر قسمين؛ القسم الأول: وهي غيرُ المستقرة، ولا اجتلبتها شبهةٌ طرأت، فهي تُدفعُ بالإعراض عنها والاستعاذة بالله، كما أسلفنا، أما تلك الخواطر المستقرةُ التي أوجبتها الشبهةُ، فقال فيها: "فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر فى إبطالها"، وهو ما ذكرنا له استدلالاً فيما سبق، شريطةَ أن يكون من أهل النظر والاستدلال.
3) أما الإنسان فله والد، والوالد له والد، وهكذا ... حتى آدمُ - عليه السلام - فلماذا جعل الله للإنسان بدايةً وأصلاً ينشأ عنه؟
يجاب عن ذلك: بأن الإنسان مخلوق، والمخلوق لا بدَّ وأن يكون له صانع، والصنعة دليل على وجود صانعها؛ لذا فإن وجود الإنسان دليل على خالقه؛ قال سبحانه: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 3، 4]، فالله - تعالى - هو الذي خلقنا، وهو الذي يميتنا، وهو الذي يعيدنا للحياة مرة أخرى وينشئنا نشأة أخرى؛ قال سبحانه: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]، فلما كان الله - تعالى - هو الخالقَ وليس بمخلوق، وقد استغنى بنفسه عن خلقه، فكان استحقاقه للعبادة من هذا الوجه ظاهرًا للبيان.
رابعًا: تفرده بصفات الجلال والكمال وتنزيهه عن الشبيه والمثيل:
1) نفى الله - تعالى - عن نفسه المثيل والشبيه، فلا أحد يماثله في صفاته، ولا في أسمائه، ولا في أفعاله، إذ يقول سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
وعليه؛ فإن الصفات التي أثبتها الله لنفسه ليست كصفات البشر، فسمعه - سبحانه - ليس كسمعنا، ويبصر بعينٍ لا كعين المخلوقين، إلهٌ متفرِّدٌ في صفاته وأسمائه.
وعليه؛ فإذا لم يفهم العبد صفة من صفات الله تعالى، فعليه ألا يعطلها أو ينفيها، وإنما يثبتها طالما أثبتها الله لنفسه في كتابه أو أثبتها له رسوله في سنته الصحيحة، ولا ينفي العبد أية صفة ثابتة بدليل صحيح لله تعالى، وإنما يؤمن بها دون أن يسأل عن الكيفية أو يسأل عن السبب، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كذبني ابنُ آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إياي أن يقول: إني لن أعيدَه كما بدأتُه، وأما شتمه إياي أن يقول: اتخذ الله ولدًا وأنا الصمدُ الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفؤًا أحد))[14].
ــــــــــــــــــ
[1] (الله): وأَصله من أَلِهَ يَأْلَهُ، وقال الخليل: "(الله) لا تطرح الألف من الاسم، إنما هو الله - عز ذكره - على التمام، قال: وليس هو من الأسماء التي يجوز منها اشتقاق"، وهو اسم لله - تعالى - اختص به نفسه، وليس لأحد من خلقه أن يتصف بصفة الألوهية أو يُدعى باسم الإله، إذ يجوز أن يكون الإنسان رحيمًا رغم أن الله هو الرحمن، وكذا يجوز أن يتصف الإنسان بالعلم رغم أن الله - تعالى - هو العليم، ولا يجوز لأحد أن يتصف بالإله؛ لأن الله وحده هو الإله؛ قال سبحانه: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]؛ أي: لا أحد يستحق العبادة غير الله - تعالى.
[2] (الصَّمْد): القَصْدُ... وبالتحريكِ : السَّيِّدُ؛ لأَنَّهُ يُقْصَدُ [القاموس المحيط]؛ أي: إنه يُقصد إليه ويُلجأ إليه، ذكر ابن كثير عن ابن عباس: يعني الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم؛ قال عز وجل: { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53].
[3] الكفء هو النظير؛ "لسان العرب"، (1/139).
[4] رواه البخاري في صحيحه، (4/1915) رقم (4726).
[5] رواه ابن ماجه في سننه، (2/1427) رقم (4300) وصححه الألباني.
[6] رواه مسلم، (4/2034) رقم (2642).
[7] رواه مسلم، (4/2106) رقم (2750).
[8] رواه مسلم، (3/1513) رقم (1905).
[9] رواه البخاري (6/2660) رقم (6866).
[10] رواه مسلم، (1/119) رقم (134).
[11] رواه مسلم، (1/119) رقم (134).
[12] رواه مسلم، (1/119) رقم (132).
[13] رواه مسلم، (1/119) رقم (132).
[14] رواه البخاري، (4/1903) رقم (4691).

اكتب تعليق

أحدث أقدم