بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن إبن خلدون ركَّز في مقدمته على مميزات الإنسان ككائن اجتماعي مدني مفكِّر، معتبرًا تلك الميزات الأساس الذي يستند إليه الاجتماع الإنساني، وفق ما يظهر في قوله: “إن الإنسان قد شاركه جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس والحركة والغذاء، وإنما يتميَّز عنها بالفكر الذي يَهتدي به لتحصيل معاشه، والتعاون عليه بأبناء جنسه، والاجتماع المهيِّئ لذلك التعاون….”، ليُؤكِّد بعدها أنه: “عن هذا الفكر تنشأ العلوم وما قدمناه من الصنائع، ثم لأجل هذا الفكر وما جُبل عليه الإنسان يكون الفكر راغبًا في تحصيل ما ليس عنده مِن الإدراكات، فيَرجِع إلى ما سبقه بعلم أو زاد عليه بمعرفة أو إدراك”، وبالتالي: “يَجيء التعليم من هذا، فقد تبيَّن بذلك أن العلم والتعليم طبيعي في البشر”.
إلا أنَّ كون العلم والتعليم طبيعيًّا في البشَر لا يمنع من أن نجاح العملية التعلُّمية مُرتبِط بكَفاءة المعلِّمين، وهذا ما جعل ابنَ خَلدون يُقرِّر أن التعليم “يُعتبَر مِن جُملة الصنائع”، و”لهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة يَفتقِرُ إلى مشاهير المُعلِّمين، مُعتبرًا عند كل أهل أفق وجيل”.
وبما أنَّ التعليم صناعة كباقي الصِّناعات، فانتِشاره وفاعليتُه بالنِّسبة لابن خلدون مُرتبِط بتحضُّر المُجتمَع؛ حيث يقول في هذا الصدد: “إنَّ تعليم العلم – كما قدمناه – مِن جُملة الصنائع، وقد كنا قدَّمْنا أن الصنائع إنما تَكثُر في الأمصار، وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلَّة والحضارة”، ويواصل في نفس الفكرة بقوله: “وإذا تقرَّر ذلك، فاعلم أن سنَد تعليم العِلْم لهذا العهد قد كاد أن ينقطِع عن أهل المَغرِب؛ باختلال عُمرانه، وتناقص الدول فيه، وما يَحدث عن ذلك من نقص الصنائع وفقدانها كما مرَّ”.
انطلاقًا مِن هذه المعطيات، اهتم ابن خلدون برسم المقومات الأساسية لحق الطفل في التعليم كما جاءت بها الشريعة الإسلامية، وكما تقتضيها خصوصيته، ويُمكِن إجمال هذه المقوِّمات في ثلاث نقاط، هي: مراعاة قدراته، مُراعاة إنسانيته، وسعْي العملية التعلمية لرفع كفاءة المتعلِّم ومهاراته.
الفقرة الأولى – مُراعاة قدرات الطفل:
اشترط ابن خلدون لنَجاح العملية التعلمية ضرورة مُراعاة قدرات المتعلم، سواء كان طفلاً أو غيره، وهو ما أصبحَت تؤكِّد عليه النظريات التربوية الحديثة وعلم النفس.
تَقتضي مُراعاة قدرات الطفل عند ابن خلدون ما يلي:
أولاً: بدء التعليم من سنِّ التمييز.
ثانيًا: مُراعاة القدرات الخاصة بكل متعلِّم.
ثالثًا: التدرُّج في العملية التعلمية.
وسنُفصِّل كل جزئية من هذه الجزئيات على حدةٍ لتتضحَ الصورة أكثر.
أولاً – بدء التعليم من سن التمييز:
يبدأ تعليم الطفل عند ابن خلدون ابتداءً من سنِّ التمييز؛ لأن الطفل قبل هذه السن ليس مستعدًّا للتعلُّم الأكاديمي؛ حيث يقول في هذا الصدد: “قد بيَّنا أول هذه الفصول أن الإنسان من جنس الحيوانات، وأن الله تعالى ميَّزه عنها بالفِكْر الذي جعله يُوقع به أفعاله على انتظام؛ وهو العقل التمييزي، أو يَقتنص به العلم بالآراء والمصالح والمفاسد من أبناء جنسه؛ وهو التجريبي، أو أن يحصل به في تصوُّر الموجودات غائبًا وشاهدًا على ما هي عليه؛ وهو العقل النظري، وهذا الفِكر إنما يحصل له بعد اكتمال الحيوانية فيه، ويبدأ من التمييز”[1]، ثم يُضيف قائلاً: “فهو قبل التمييز خِلْوٌ مِن العلم بالجُملة”[2].
إذًا فحسَب ابن خلدون: لا يبدأ التعلم لدى الطفل إلا ابتداءً من سن التمييز، أما قبْل هذه السنِّ، فهو – كما عبَّر عنه -: خِلوٌ من العلم بالجُملة.
إلا أنَّ الأمر لم يعد على هذا النَّحو وفق العلوم الحديثة؛ حيث أصبح التعليم يبدأ في مراحل جد مبكرة، ابتداءً مِن مرحلة الاجتِنان، اعتمادًا على سمع الجنين، ثم يتدرَّج في مرحلة ما قبل سنوات المدرسة عن طريق عملية اللعب، إلا أنَّ التعليم الأكاديمي لا يَبدأ إلا بعد إكمال الطفل لسنِّ التمييز أو بلوغه ست سنوات على الأقلِّ.
يتَّفق العلم المعاصر مع ابن خلدون في أن تعليم الأطفال الكتابةَ والحساب وغيرها من المعارف لا يبدأ إلا فى السابعة من عمر الطفل وليس قبلها؛ حيث صرَّح البياجي في هذا الصدد بما يلي: “إنَّ الذاكرة مرتبطة بالحكي، والتفكير بالمناقشة، والاعتِقاد بالالتزام أو بالوعود، والفِكر كله مُرتبِط باللغة الخارجية (مع الغير) أو الداخلية (مع النفس)، ولكن هنا يتجسَّد الفارق الزمني، هل يعرف الطفل على الفور كيف يوصل فكرته كاملة ويَستوعِب وجهة نظر الغير؟ أو أن التدريب على إقامة علاقات اجتماعية أمرٌ ضروريٌّ للوصول إلى تعاونٍ حقيقيٍّ؟ إنَّ تحليل وظائف اللغة التلقائية عند الطفل يفيد في هذه المسألة؛ إذ من السهل ملاحظة كون الحوار بين الأطفال يبقى بدائيًّا ومرتبطًا بالفعل المادي نفسه؛ ذلك أن الأطفال إلى حدود سنِّ السابعة لا يَعرفون معنى المناقَشة فيما بينهم، بل يَكتفون بمُعاكسة آراء بعضهم البعض”[3].
وجاء في تحليل آخَر له: “إن السابعة – كمعدَّل للسن، والتي تصادف بداية الدراسة بكل معنى الكلمة – تشكِّل منعطفًا حاسمًا بالنسبة للنمو الذهني؛ ففي كل جانب من الجوانب المعقَّدة للحياة النفسية، سواء تعلق الأمر بالذكاء، أو الحياة الانفعالية، أو العلاقات الاجتماعية، أو النشاط الفردي المحض؛ فإننا نلاحظ ظهور أشكال جديدة من التنظيم تُتَمِّم البناءات التي بدأت خلال المراحل السابقة، وتضمَن له توازنًا أكثرَ استقرارًا مع تدشينها لسلسلة لا متناهية من البناءات الجديدة”[4].
لا يَكون الطفل مستعدًّا للدراسة قبل السابعة؛ لأنه قبْل هذه السنِّ لا يَستطيع وضع الأشياء معًا على أساس صفة مشتركة، وهو ما أصبحَتْ تؤكِّد عليه العلوم المتعلِّقة بالتنمية البشرية[5].
وهذا ما أكَّد عليه الرسول عليه الصلاة والسلام: ((علموا أولادكم الصلاة لسبع))، كما أشار إليه علي بن أبي طالبٍ: “لاعِبْه لسبع، وعلمه لسبع، وصاحبه لسبع، ثم اترُك حبلَه على الغارب”.
إذًا لا يكون الطفل مستعدًّا للدراسة إلا ابتداءً من بلوغِه سنِّ التمييز الذي عادة ما يكون في السابعة من عمره، وهو ما أكَّد عليه ابن خلدون مراعاةً لقدرات الطفل وطاقاته.
ثانيًا – مراعاة القدرات الخاصة بكل متعلم:
لقد بيَّن ابنُ خَلدون أنَّ تعليم الأطفال يبدأ من سن التمييز، ليؤكِّد بعدها على أهمية تعليم الأطفال الذين بلغوا هذه السنَّ، وسبب ذلك هو أن “تعليم الصِّغَر أشد رسوخًا، وهو أصل لما بعده”[6]، من هنا كان تعليم الوِلدان القرآنَ شعيرةً مِن شعائر الدين في المجتمعات الإسلامية؛ لأنَّ السابق الأول للقُلوب يُعتبَر أساسًا للملَكات، وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما يُبنى عليه[7].
إلا أنَّ وقوف ابن خلدون على واقع التعليم في العالم الإسلامي في ذلك العصر، لم يَمنعه من التأكيد على أن احترام قدرات المتعلِّم يُشكِّل أساسًا جوهريًّا للنجاح الفعلي للعمَلية التعلُّمية؛ حيث صرَّح أنَّ “تلقين العلوم للمتعلِّمين إنما يكون مفيدًا، إذا كان على التدريج، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويُراعى في ذلك قوةُ عقلِه واستعداده لقبول ما يورد عليه”، وهو ما أكَّد عليه في قولٍ آخَر: “هذا وجه التعليم المفيد، وهو – كما رأيتَ – إنما يَحصل في ثلاثة تكرارات، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يُخلَق له ويتيسَّر عليه”.
يعتمد نجاح التعليم – وَفْق ابن خلدون – على مراعاة القدرات الخاصة بكل مُتعلِّم، زيادة على أخذ الطبيعة الخاصة للمُتعلِّمين الصغار أثناء تصميم البرامج التعلمية الخاصَّة بهم.
هذا ما دفَعه ليَنقل إلينا بإعجاب ما ذهب إليه القاضي أبو بكر بن العربي الذي قدَّم تعليم العربيَّة والشِّعر على سائر العلوم؛ كما هو مذهَب أهل الأندلس، وحُجَّته في ذلك أن “الشِّعر ديوان العرب، ويَدعو إلى تقديمِه وتقديم العربية في التعليم ضرورة، ثمَّ يَنتقل منه إلى الحساب فيتمرَّن فيه حتى يرى القوانين، ثُمَّ يَنتقل إلى درس القرآن، فإنه يتيسَّر عليه بهذه المقدِّمة”[8].
ولقد عقَّب ابن خلدون على منهج ابن العربي بقوله: “وهو لعَمري مذهب حسنٌ، إلا أنَّ العوائد لا تُساعد عليه، وهي أملك بالأحوال”[9].
أكَّد ابن خلدون على سلامة مذهب وطريقة ابن العربي في التعليم، رغم أنها تَتنافى مع الطرُق المتَّبعة في عصره، والتي درَج المربُّون على تطبيقِها، والأخْذ بها؛ حيث يقول في هذا الصدد: “ووجْه ما اختصَّت به العوائد مِن تقديم دراسة القرآن؛ إيثارًا للتبرُّك والثواب، وخشية ما يعرض للولد في جنون الصِّبا مِن الآفات والقواطع عن العلم فيفوته القرآن؛ لأنه ما دام في الحجر مُنقادٌ للحكم، فإذا تجاوز البلوغ وانحلَّ مِن رِبقة القهر، فربما عصفت به رياح الشبيبة، فألقته بساحل البطالة، فيَغتنمون في زمان الحجر وربقة الحكم تحصيل القرآن له؛ لئلا يذهب خلوًا منه، ولو حصل اليَقين باستمراره في طلب العلم، وقبوله التعليم، لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى ما أخذ به أهل المغرب والمشرق …”[10].
إذًا فسبب العدول عن طريقة ابن العربي إلى الطريقة التقليديَّة يَرجع إلى أمرين اثنين:
الرغبة في التبرُّك ونَيل الثواب مِن تعليم الصغار القرآن الكريم.
الخوف مِن مَشاكل المُراهَقة التي قد تَعصِف بالصغير فتدفعه لترك التعليم، دون أن يتعلم شيئًا من القرآن.
إذًا فهي مجرد أسباب عاطفية لم تكن الحُلول متيسرة لها عند كل من ابن العربي وابن خلدون؛ لذا عقَّب هذا الأخير على هذا التناقُض بين ما يجب وما هو سائد بقوله: “ولكن الله يَحكُم ما يشاء، لا معقِّب لحكمِه سُبحانه”[11].
ثالثًا – التدرُّج في العمليَّة التعليميَّة:
يُشكِّل التدرُّج في العمليَّة التعليمية أحد مقوِّمات نجاح هذه العملية من وجهة نظر ابن خلدون؛ حيث صرَّح في مقدَّمته بأن: “تَلقين العلوم إنما يكون مفيدًا، إذا كان على التدريج…”[12].
يمرُّ التعليم وفق ابن خلدون عبر مرحلتَين على نسَق ما كان جاريًا العمل به في عصره: تبدأ المرحلة الأولى من سنِّ التمْييز إلى البُلوغ، وتهدف إلى تحفيظ القرآن الكريم للمُتعلِّم؛ باعتباره – أي القرآنِ -: “أصْل التعليم الذي يَنبني عليه ما يحصل بعده من الملكات”[13]، وتأتي المرحلة الثانية بعد تجاوز المرحلة الأولى، ويكون ذلك عادةً بعد البلوغ؛ حيث يتلقَّى التلميذ فيها مختلف العلوم بهدف حصوله على الملَكة.
ولقد أكَّدت العلوم الحديثة ما ذهَب إليه ابن خَلدون؛ لأن “فكرة المراحل هي أكبر من مجرَّد تقدُّم تتابعي لارتقاء التفكير ونموِّه، إنها تتضمَّن تنميط الاستجابات خلال تتابع الفترات الزمنية، والذي يكون ضروريًّا لدعم كل قدرة”[14]؛ لأنَّ نموَّ قدرات الطفل يتمُّ تدريجيًّا وعبْر مراحل مختلفة، يَجب مرعاتها أثناء العمليَّة التعلميَّة.
كما يقرِّر ابن خَلدون أن التدرُّج ضروري للتعليم حتى ولو تعلق الأمر بالكِبار؛ حيث يقول: “وقد شهدْنا كثيرًا مِن المُعلِّمين لهذا العهد الذي أدركنا يَجهلون طرُق التَّعليم وإفاداته، ويُحضرون للمُتعلم في أول تعليمه المسائل المُقفلة من العلم، ويُطالبونه بإحضار ذهنه في حلِّها، ويَحسبون ذلك مرانًا على التعليم وصوابًا فيه، ويُكلِّفونه رعْي ذلك وتَحصيله، فيُخلِّطون عليه بما يُلْقون له من غايات الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعدَّ لفَهمِها، فإنَّ قبول العلم والاستعدادت لفهمه تنشأ تدريجيًّا”[15]، ويؤكِّد على نفس الفكرة بقوله: “ويكون المتعلم أول الأمر عاجزًا عن الفهم بالجملة، إلا في الأقلِّ، وعلى سبيل التقريب والإجمال، وبالأمثال الحسية، ثمَّ لا يزال الاستِعداد فيه يتدرَّج قليلاً قليلاً بمُخالَطة مسائل ذلك الفنِّ وتكرارها عليه…”[16].
إذًا يتوقَّف نجاح العملية التعلمية عند ابن خلدون على التدرج في تعليم المتعلم؛ حيث يجب أن يتم ذلك “شيئًا فشيئًا وقليلاً قليلاً، ويُلقى عليه أولاً مسائل من كل باب مِن الفنِّ، هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويُراعى في ذلك قوةُ عقله واستعداده لقبول ما يورد عليه”[17]، ويقترب ما ذهب إليه ابن خلدون مما يقرِّره علماء التربية في عصرنا، الذين يؤكدون على تدرج قدرات الطفل في النموِّ، وضرورة اقتران هذا الارتقاء بتدرُّج العمليَّة التعلمية وفق تلك القدرات؛ لأن “ارتقاء المراحل السبعة القائمة على أساس بيولوجي[18] أمر ثابت، ويتضمن تتابعًا عامًّا وشائعًا في كل الثقافات، وتكاملاً هرميًّا للمُستَويات مِن الأدنى إلى الأعلى، وتقويةً أو تدعيمًا تدرجيًّا للتكوين أو التشكيل الذي يوحِّد أساليب السلوك والمَفاهيم والمهارات، والنَّتيجة هي شبكة بنائية عريضة من القدرات المتداخِلة والمتشابكة تَظهر ليست مرة واحدة ولكن في غضون فترة محددة..”[19].
إذًا يتَّفق ابن خلدون مع ما ذهبتْ إليه علوم النفس والتربية حول ضرورة تدرُّج التعليم لضمان نجاح العملية التعليمية؛ لأنَّ ذلك ما تقتضيه الطبيعة الإنسانية المتميزة.
الفقرة الثانية – احترام إنسانية المتعلِّم:
يتميز الإنسان عن باقي الكائنات الحية بأنه عاقل مفكِّر، وله سلوك غائي، يهدف من ورائه لتحقيق وتحصيل غاياته وأهدافه، أو ما يعتبره مصلحةً له، وهو مستعدٌّ للنِّضال من أجلها، وحتى التضحية ببعضها لأجل تحقيق أهداف أخرى يراها أهم مِن تلك المُضحَّى بها؛ لذا كان نجاح العملية التعلُّمية مُرتبطًا باحتِرام هذه الفطرة الإنسانية.
يعدُّ التعلُّم طبيعيًّا لدى الإنسان عند ابن خلدون، شرط عدم التشديد على الطفل المتعلِّم، وهذا ما سنقف عليه في هذه الجزئية:
أولاً: التعلم طبيعي لدى الإنسان في النظرية الخلدونية:
خلق المولى – عز وجل – الإنسان مُستعدًّا للتعلُّم؛ لذا بعَث له الأنبياء والرسل مُعلِّمين ومبشِّرين، وهو ما أشار إليه ابن خلدون في مقدمته بقوله: “إنَّ الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس والحركة والغذاء..، وإنما يتميَّز عنها بالفكر الذي يَهتدي به لتحصيل معاشه، والتعاون عليه بأبناء جنسه، والاجتماع المهيئ لذلك التعاون، وقبول ما جاءت به الأنبياء من الله تعالى، والعمل به واتباع صلاح أخراه، فهو مفكِّر في ذلك كله دائمًا لا َيفتر عن الفكر فيه طرفة عين، بل اختلاج الفكر أسرع من لمح البصر…”[20]، ثم يواصل قائلاً: “وعن هذا الفكر تنشأ العلوم وما قدَّمناه مِن صنائع، ثم لأجْل هذا الفكر وما جبل عليه الإنسان بل الحيوان مِن تحصيل ما تَستدعيه الطِّباع، فيكون الفكر راغبًا في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات، فيرجع إلى ما سبقه بعلم، أو زاد عليه بمعرفة أو إدراك….”[21].
ولقد أكَّد علماء النفس والتربية ما ذهَبَ إليه ابن خلدون؛ لأنَّ الفعل في كل المستويات يفترض دائمًا حاجة ما تدفع إلى القيام به، سواء تعلَّق الأمر بحاجة فيزيولوجية أو انفعالية أو عقلية؛ “إن الرغبة في الحالة الأخيرة تظهر في صورة تساؤل أو قضية أو مشكل، وفي كل الحالات يظهر الذكاء بمظهر الباحث عن الفهم أو التفسير”[22]؛ ولهذا كان “الإنسان بالمقارنة مع الكائنات الحية الأخرى التي نعرفها يدخل العالم فارغ الرأس تمامًا، بينما العديد من الأنواع مثل الطيور والأسماك والحيوانات الأخرى تُولد بأمخاخ مبرمجة أو مزوَّدة بمعلومات تُمكِّنها من البقاء ….”[23]، في حين يكون الوليد الإنساني عديم الحيلة تمامًا، وعليه أن يكوِّن وجهةَ نظر خاصة به عن العالم الذي يحيط به بمساعدة الآخرين[24]، إلا أنه مِن المنظور البيولوجي فإن عدم وجود وجهة نظر (حول العالم) أمر مُمتاز، وله قيمة بقائية، فالإنسان يستطيع أن يتوالد في أي بيئة، وكذلك سوف تتعلم الذرية من البيئة خلال الملاحظات والتفاعلات معها، لقد وهبنا هدية وراثية نافذة وقوية، هي مجموعة من القدرات على التفكير، تُبرمَج – عن طريق التربية والتعليم – لكي تظهَر على فترات، وتوزَّع بدرجة كافية وبشكل مستقلٍّ لكي تُعطي الفرصة للقدرة الحالية لكي تبني نفسها”[25].
إذًا يعدُّ التعلُّم أمرًا طبيعيًّا لدى الإنسان من وجهة نظر علم النفس التربويِّ وابن خلدون، الذي صرَّح قائلاً: “فقد تبيَّن أن العلم والتعلُّم طبيعي في البشر”[26] شريطة احتِرام الفِطرة الإنسانية، وعدم قرن العمليَّة التعلمية بالألم والمُعاناة، ومِن هنا يَرفض ابن خلدون استِعمال الضرب والإهانة كوسائل للتعليم.
ثانيًا – حسن معاملة الطفل المتعلِّم:
يشكِّل اعتماد الضرب والقهر كوسيلة للتعليم سببًا للتهرُّب منه[27]، وسبيلاً لإفساد الطبع الإنساني لدى المتعلِّم وفق ما أكَّد عليه ابن خلدون في مقدمته؛ “وذلك أن إرهاف[28] الحد في التعليم مضرٌّ بالمتعلِّم، سيما في أصاغر الولد؛ لأنه من سوء الملكة”[29]، ويرفض ابن خلدون الاعتماد على القهر كوسيلة لتربية الأطفال؛ لأنه مُنافٍ للعمليَّة التربوية والتعلمية؛ لأنه يُفقد النشاط والانبساط، ويُفسد الأخلاق؛ حيث يقول في هذا الصدد: “ومَن كان مرباه بالعسف والقهر.. سطا به القهر وضيق على النفس في انبِساطها، وذهَب بنشاطها، ودَعاه إلى الكسل”[30].
يتسبب القهر الصادر عن المعلِّم أو المربِّي تجاه الطفل – عند ابن خلدون – في فقد انبساطه والذهاب بنشاطه ودفعه للكسل وعدم بذل الجهد، وهو ما يؤكِّد عليه في قول آخر له: “وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل”[31].
كما يتسبَّب زيادةً على ذلك في إفساد خُلُقِ الطفل وإنسانيته؛ لأنَّ “مَن كان مرباه بالعسف والقهر… سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره؛ خوفًا مِن انبِساط الأيدي بالقهر عليه، وعلَّمه المكر والخديعة، وصارت له هذه عادة وخلقًا”[32].
وهكذا يُصبح التعليم في هذه الحالة وسيلة لإفساد إنسانية المتعلِّم، وهو ما أفصَحَ عنه ابن خَلدون في مقدمته بقوله: “وفسدت معاني الإنسانية التي له مِن حيث الاجتِماع والتمدُّن، وهي الحميَّة والمُدافَعة عن نفسه أو منزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلُق الجَميل، فانقبضَتْ عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل سافلين”[33]، ثم يضيف قائلاً: “وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف… ولا تكون الملَكة الكافِلة له رفيقة به”[34]، ولا يَختلف ما أقرَّه ابن خلدون عما ذهَب إليه المُهتمون بشؤون الطفْل في التشريعات الحديثة، التي تعتبر الطفل الذي يتعرَّض للقهر في خطر؛ مما يَقتضي تدخل مصالح حماية الطفولة لمساعدته ومساعدة والديه لوقايته والمجتمع من ضرر محقق[35].
ولتفادي كل هذه النتائج على المستوى الفردي والجماعي يقول ابن خلدون: “فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدُّوا عليهم في التأديب”[36].
الفقرة الثالثة – تطوير كفاءة المتعلم ومهاراته:
تهدف العملية التعلُّميَّة عند ابن خلدون إلى رفع كفاءة المتعلِّم ومهاراته من خلال تحصيله للكفاءة العِلمية، أو ما أطلق عليه اسم: المَلَكة، ومساهمته في تمدُّن مجتمعِه.
أولاً – تحصيل الملَكة أو الكفاءة العلمية:
لقد أكَّد ابن خلدون في أكثر من مقام على أن الهدف النهائي للتعليم هو: تمكين المتعلِّم من الحصول على الملَكة؛ أي: امتلاك مفاتيح العلم أو صناعة ما، ويتمُّ ذلك في مرحلتين، هما مرحلة التعليم الأولى، ومرحلة التعليم الثانية، زيادة على الاهتِمام بحسن التعليم.
أ – مراحل التعليم عند ابن خلدون:
لا يَحصل المتعلِّم على الكفاءة المطلوبة عند ابن خلدون إلا إذا أتمَّ مراحل التعليم.
1- المرحلة الأولى:
تبدأ المرحَلة الأولى مِن التعليم مِن سنِّ التمييز إلى البُلوغ، وتهدف إلى تَحفيظ القرآن الكريم للمُتعلِّم باعتباره – أي: القرآن -: “أصْل التعليم الذي يَنبني عليه ما يحصل بعده مِن الملَكات”[37]؛ حيث يَذكر ابن خَلدون اتِّجاهات المُجتَمعات الإسلامية في التعليم خلال هذه المرحلة، فيَقتصر أهل المَغرب على تحفيظ القرآن فقط، في حين يخلط أهل الأندلس في تعليمهم للولدان بين القرآن ورواية الشعر والكتابة، إضافة إلى قوانين اللغة العربية، أما أهل إفريقية “فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب، ومدارسة قوانين العلوم، وتلقين بعض المسائل”، مع تركيزهم أكثر على القرآن وعلومه، كما يخلط أهل المشرق في تعليمهم للأطفال بين القرآن الكريم وصحُف العِلم وقوانينه[38].
لقد اتَّفقَت الأمصار الإسلامية على بدْء التعليم بتحفيظ القرآن، واختلفت حول الموادِّ التي يُمكن تعليمُها للولدان في أول تعليمهم، ويقرُّ ابن خَلدون بأنَّ تقديم القرآن في هذه المرحلة هو اختيار عاطِفي لا يَستند إلى أساس علمي؛ حيث يقول: “ووجْه ما اختصَّت به العوائد من تقديم دراسة القرآن؛ إيثارًا للتبرُّك والثواب، وخشية ما يَعرض للولد في جنون الصِّبا مِن الآفات والقواطع عن العِلْم فيفوته القرآن؛ لأنَّه ما دام في الحجر مُنقاد للحكم”[39]، وهو يفضل تقديم الشعر على نهج القاضي ابن العربي؛ لأنَّ “الشِّعر ديوان العرب، ويدعو إلى تقديمه وتقديم العربية في التعليم ضرورة، ثم ينتقل منه إلى الحساب، فيتمرَّن فيه حتى يَرى القوانين، ثم يَنتقل إلى درس القرآن، فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة”[40].
ويَقترح ابن خَلدون – طيلة هذه المرحلة التي تُقارب ثماني سنوات – الاقتصار على تعليم الطفل اللغة والحساب، ولا يَنتقل إلى المرحلة الثانية إلا إذا تجاوَزَها، وهذا يعدُّ منافيًا لطرُق التربية الحديثة، التي تُنوِّع في مواد الدراسة، وتأخذ قدرات التلميذ بعين الاعتبار.
2- المرحلة الثانية:
أما المرحلة الثانية فتأتي بعد تجاوز المرحلة الأولى، ويكون ذلك عادةً بعد البلوغ؛ حيث يتلقَّى التلميذ فيها مختلف العلوم بهدف حصوله على الملَكة، ولا يتحقَّق هذا الهدف – حسب ابن خلدون – إلا تدريجيًّا، وعبر مراحل مختلفة؛ حيث يقول: “اعلم أن تلقين العلوم إنما يكون مفيدًا إذا كان على التدريج شيئًا فشيئًا، وقليلاً قليلاً، ويُلقى عليه أولاً مسائل من كل باب مِن الفنِّ، هي أصول ذلك الباب، ويقرَّب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويُراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يُورَد عليه، حتى ينتهي إلى آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم، إلا أنها جزئية وضعيفة، وغايتها أنها هيَّأته لفَهم الفنِّ وتَحصيل مسائله”[41].
إلا أنَّ الأمر لا يَنتهي عند هذا الحدِّ؛ لأنَّ الهدف النهائي للتعليم لم يتحقَّق بعد؛ لذا يَجب على المعلِّم – من وجهة نظر ابن خلدون – أن “يرجع به – أي المتعلِّمِ – إلى الفنِّ ثانيةً، فيَرفعه في التلقين عن تلك الرُّتْبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان، ويَخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من خلاف ووجهه، إلى أن يَنتهي إلى آخر الفنِّ فتجود ملكتُه، ثم يَرجع به وقد شدا، فلا يترك عويصًا ولا مُبهمًا ولا مُنغلقًا إلا وضَّحه وفتَح مُقفَله فيَخلص مِن الفنِّ وقد استولى على ملكته”[42].
وفي الأخير يقول: “هذا وجه التعليم المُفيد، وهو – كما رأيت – يَحصل في ثلاث تكرارات، وقد يَحصل للبعض في أقلَّ مِن ذلك، بحسب ما يخلق له ويتيسَّر عليه”[43].
إذًا لقد عرف ابن خلدون ما نُسمِّيه في عصرنا بالتربية والتعليم بالأهداف، وهو ما يَتماشى مع الطبيعة الإنسانية، على اعتبار أن الإنسان كائن له سلوك غائي وليس غريزيًّا، كما هو حال باقي الأحياء.
ب – الاهتِمام بحسن التعليم:
إنَّ إتمام مراحل التعليم لا يصنع الكفاءة العِلميَّة وَفْق ابن خَلدون إلا إذا رافَقه حسْن التعليم الذي يهدف لتكوين الملَكة؛ حيث يقول: “وأيسر طرُق هذه الملَكة قوة اللسان بالمُحاوَرة والمُناظَرة في المسائل العِلمية، فهو الذي يقرِّب شأنها، ويُحصِّل مرامها”[44].
إذًا لا تَحصل الملكة إلا مِن خلال الاهتمام بالتكوين العلمي واللغوي للمُتعلِّم، وتعويده على المناقشة والمحاورة التي تمكِّنه مِن اكتشاف أخطائه وتصحيحها، وهو ما أصبحَت تدعو إليه التربية الحديثة؛ حيث يقرِّر علماء التربية أن الاكتفاء بتحفيظ المتعلِّم دون التركيز على تنمية قدراته يدلُّ على فشل العملية التعليمية؛ لأن هدف المقرر الدراسي هو تحسين قدرات التلاميذ على مواجهة تحديات جديدة، وتناول المشاكل الجديدة بثقة وعقلانية وتوجه منتج[45].
ولقد انتقَد ابن خلدون طرق التعليم المتَّبعة في عصره بقوله: “وقد شاهدْنا الكثير من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يَجهلون طرق التعليم وإفاداته، ويحضرون للمُتعلِّم في أول تعليمه المسائل المُقفَلة مِن العِلْم ويُطالبونه بإحضار ذهنِه في حلِّها، ويَحسبون ذلك مرانًا على التعليم وصوابًا فيه، ويُكلِّفونه رعْي ذلك وتحصيله، فيخلطون عليه بما يُلْقون له مِن غايات الفنون في مبادئها، وقبْل أن يستعدَّ لفَهمها، فإنَّ قبول العلم والاستِعدادات لفهمه تنشأ تدريجيًّا”[46].
كما بيَّن أثر الطرُق السلبية على المتعلِّم بقوله: “فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب كثير مِن أعمارهم في ملازَمة المجالس العِلمية سكتًا لا يَنطقون ولا يُفاوِضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة، فلا يَحصلون على طائل من ملَكَةِ التصرُّف في العلم والتعليم”[47]، ثمَّ يُضيف قائلاً: “ثمَّ بعد تحصيل مَن يرى منهم أنه قد حصَّل، تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علَّم، وما أتاهم القُصور إلا مِن قبل التعليم وانقِطاع سنده، وإلا فحِفظُهم أبلغ مِن سِواهم لشدَّة عنايتِهم به، وظنهم أنه المقصود من الملَكة العِلميَّة”[48].
إذًا فهدف التعليم عند ابن خَلدون هو تحصيل الملَكَة العِلميَّة، وليس حفظ المعلومات.
ثانيًا – المساهمة الإيجابية في تمدن المجتمع:
لا بدَّ للتعليم أن يُساهم في صقْل شخصيَّة المتعلِّم وتطوير سلوكه ليُساهِم في تطوير المجتمع، وهذا ما دفع بابن خلدون للاهتمام بطرُق التدريس ورفْضه لاستِعمال العنْف في التربية أو كما عبَّر عنه بالقهر، خاصةً في المراحل الدراسية الأولى عندما يكون الطفل ما زال غضًّا[49].
ويعتبر ابن خلدون أنَّ الطريقة المثلى لتهذيب نفس المتعلِّم مرتبطة بكيفية تعامل مُعلِّميه معه؛ حيث يقول في هذا الصدد: “ومِن أحسن مذاهب التعليم، ما تقدَّم به الرشيد لمعلِّم ولده؛ قال خلف الأحمر: بعث إليَّ الرشيد في تأديب ولده – محمد الأمين – فقال: يا أحمر، إنَّ أمير المؤمنين قد دفع إليك مُهجة نفسه وثمرة قلبه، فصيَّر يدَكَ عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعَك أمير المؤمنين[50]، وبصِّره بموقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضَّحِك إلا في أوقاته، وخذْه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفْع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه، ولا تمرَّنَّ بك ساعة إلا وأنت مُغتنِم فائدة تفيده إياها مِن غير أن تُحزنه فتُميت ذهنه ولا تُمعن في مسامحته، فيستحلي الفراغ ويألفه، وقوِّمه ما استطعت بالقرب والملايَنة، فإنْ أباهما فعليك بالشدة والغلظة”[51].
كما يقول في موطن آخر: “قد ذكرْنا في الكتاب أنَّ النفْس الناطقة للإنسان إنما توجد فيه بالقوة، وأنَّ خروجها من القوة إلى الفِعل إنما هو يتجدَّد بالعلوم والإدراكات عن المحسوسات أولاً، ثمَّ يكتسب بعدها بالقوة النظرية إلى أن يصير إدراكًا بالفعل وعقلاً محضًا، فتكون ذاتًا روحانية، وتستكمل حينئذٍ وجودها”[52]، ثم يُضيف قائلاً: “فوجب لذلك أن يكون كل نوع من العلم يُفيد عقلاً فريدًا، والصنائع أبدًا يَحصل عنها وعن ملكتها قانون عِلمي مُستفاد عن تلك الملَكة؛ فلهذا كانت الحنكة في التجربة تُفيد عقلاً، والحضارة الكامِلة تُفيد عقلاً؛ لأنَّها مُجتمعة مِن صنائع في شأن تدبير المَنزل ومُعاشَرة أبناء الجنْس، وتحصيل الآداب في مخالطتهم، ثم القيام بأمور الدِّين واعتِبار آدابها وشرائطها، وهذه كلها قوانين تَنتظم علومًا، فيحصل منها زيادة العقل”[53]؛ إذ يَبدو واضحًا مِن كلام ابن خَلدون أن التعلُّم الحقيقي يَرفع من كفاءة الفرد العلمية والواقعية، فيزيده تجربةً وخبرةً وحِكمةً؛ مما يؤثِّر إيجابًا على علاقته بالآخرين، مما يُساهم في بناء الاجتِماع الإنساني الفاعل.
خاتمة
اهتمَّ ابن خلدون في مقدمته بالتعليم وطرقه، سابقًا في ذلك رجالَ عصره بأفكاره الإبداعية التي ركَّزت على ارتِباط نجاح العمَليَّة التعلمية بمَجموعة مِن الشروط، هي:
بدْء التعليم الابتدائي من سنِّ التمييز.
مُراعاة القدرات الخاصة بالمتعلِّم.
التدرُّج في التعليم حسب مراحل تطور الطفل.
نبذ العنف كوسيلة تربوية.
ارتِباط العملية التعليمية بهدف محدَّد يتمثَّل في تحصيل المتعلِّم للكفاءة العلمية والفاعلية الاجتماعية.
إذًا فالتعليم – من منظار ابن خلدون – ليس عملية تلقينية عبثية تهدف إلى حشو ذهن المتعلِّم بعدد لا يحصى من المعلومات، بل عملية واعية تنطلق من احترام المتعلم، وتهدف إلى رفع كفاءته المعرفية، وفاعليته الاجتماعية؛ من خلال برامج تربوية فاعلة، وطرق تدريس واعية، وهو ما أصبحت تسعى إليه التربية الحديثة التي نُحاول تبنِّي تَجاربها دون الانتباه لما قدَّمه لنا ابن خلدون من فكر وتجربة.
________________________________________
[1] ابن خلدون: المقدمة، تحقيق: درويش الجويدي، المرجع السابق.
[2] المرجع نفسه.
[3] جان بياجي: التربية والنمو الذهني لدى الطفل، (دراسات في علم النفس التكويني)، ترجمة: محمد الحبيب بلكوش، نشر الفنك، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، (ص: 29 – 30).
[4] جان بياجي: المرجع السابق (ص: 50).
[5] لورانس لوري: الأسس البيولوجية للتفكير في منهاج مدرسي للتفكير، مقالات في تعليم التفكير، عرَّبه: علاء الدين كفافي، إصدارات مركز تنمية الإمكانات البشرية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1998، (ص: 10).
[6] ابن خلدون: المرجع السابق (ص: 536).
[7] المرجع نفسه.
[8] انظر المقدمة: (ص: 538).
[9] المقدمة: (ص: 538).
[10] المرجع نفسه.
[11] المرجع نفسه.
[12] ابن خلدون: المرجع السابق (ص: 531).
[13] ابن خلدون: المرجع السابق (ص: 536).
[14] لورانس لوري: المرجع السابق (ص14).
[15] ابن خلدون: المرجع السابق (ص: 532).
[16] المرجع نفسه.
[17] ابن خلدون: المقدمة (ص: 531).
[18] وتتمثَّل في ما يلي: بناء الرصيد (من الولادة إلى حدود ثلاث سنوات)، مقارنة المعلوم بالمجهول (من ثلاث سنوات إلى ستِّ سنوات)، وضع الأشياء معًا (من سن السادسة إلى سن الثامنة)، الأفكار المتزامنة (من سن الثامنة إلى العاشرة)، علاقات الرئيس – الفرعي (من سن العاشرة إلى سن الثالثة عشرة)، الاستدلال التجميعي (من سن الثالثة عشرة إلى السادسة عشرة)، التفكير المرن (يبدأ في سن السادسة عشرة).
[19] لورانس لوري: المرجع السابق (ص: 15).
[20] ابن خلدون: المرجع السابق (ص: 401).
[21] المرجع نفسه.
[22] جان بياجي: المرجع السابق (ص: 13).
[23] لورانس لوري: المرجع السابق (ص: 6).
[24] المرجع نفسه، سويف.
[25] لورانس لوري: المرجع السابق (ص: 6).
[26] ابن خلدون: المرجع السابق (ص: 401).
[27] لأنَّ الإنسان مجبول – كغيره من الكائنات الأُخرى – على السعْي لدفع الألم عن نفسه؛ لذا يتهرب من التعلم المقرون بالألم؛ لأن التعلم يصبح مُنعكسًا شرطيًّا يشكِّل رمزًا للألم؛ لارتباطه به.
[28] الشدة.
[29] ابن خلدون: المرجع السابق (ص: 538).
[30] المرجع نفسه.
[31] ابن خلدون: المرجع السابق (ص: 539).
[32] ابن خلدون: المرجع السابق (ص: 538).
[33] ابن خلدون: المرجع السابق (ص: 539).
[34] المرجع نفسه.
[35] عمر فاروق الحسيني: انحراف الأحداث المشكلة والمواجهة، ط الثانية 1995،
Jean CHAZAL:Les droits de l’enfant، PUF، 2 ed 1962، p 48 et s.
[36] ابن خلدون: المرجع السابق (ص: 539).
[37] ابن خلدون: المرجع السابق (ص: 536).
[38] المرجع نفسه.
[39] ابن خلدون: المرجع السابق (ص: 538).
[40] انظر المقدمة: (ص: 538).
[41] ابن خلدون: المرجع السابق (ص: 531).
[42] ابن خلدون: المقدمة، المرجع السابق (ص: 532).
[43] المرجع نفسه.
[44] المقدمة: المرجع السابق (ص: 403).
[45] أرثر كوستا: البحث عن حياة ذكية، في مهارات التفكير وتعليم التفكير الناقد والتفكير الإبداعي، عرَّبه: فيصل يونس، إصدارات مركز تنمية الإمكانات البشرية، دار النهضة العربية، القاهرة، (ص: 132).
[46] المقدمة: المرجع السابق (ص: 532).
[47] ابن خلدون: المقدمة، المرجع السابق (ص: 403).
[48] المرجع نفسه.
[49] انظر ما سبق قوله في هذا البحث.
[50] حيث بعدها أظهر له البرنامج التربوي الذي عليه اتباعه، وهو كالآتي: “أقرِئه القُرآن، وعلِّمه الأخبار، وروِّه الأشعار، وعلِّمْه السنن”.
[51] ابن خلدون: المرجع السابق (ص: 539).
[52] ابن خلدون: المرجع السابق (ص: 399).
[53] المرجع نفسه.
إرسال تعليق