بقلم \ المفكر العربي العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن بداية من عصر تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة ومروراً بعصر الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين وحتى وقتنا الحاضر؛ نرى أن أحد المسئوليات التي وقعت على عاتق الخليفة أو الحاكم المسلم هي المسؤولية الثقافية وما يترتب عليها من التزامات أدبية ومادية، تمثلت في الرعاية التامة للعلماء والشعراء والأدباء، وأقيمت مجالس أدبية ومنتديات ثقافية بين يدي الخلفاء والملوك، إدراكا منهم على الرسالة السامية التي تحملها الثقافة فضلا عن أنها تلعب دورا بارزا في البناء الفكري والوجداني للفرد.
وسأقصر حديثي عن عصر النبوة والخلافة الراشدة، وهما النموذج الأمثل للدولة الإسلامية التي يصبو إليها المسلمون بل العالم كله.
تعرض لنا كتب السيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رعاية النبي لهذا المسئولية الثقافية فأكد عليه الصلوات والسلام على أهمية الشعر ودوره التثقيفي، وهو أرقى الفنون وقتئذ، وربما إلى الآن عند العرب خاصة والأمم عامة، فقد روي عنه أنه قال: (( إن هذا الشعر جزل من كلام العرب، يعطى به السائل، ويكظم به الغيظ، وبه يشبع القوم في ناديهم)).
وقد شجّع - عليه الصلاة والسلام - الشاعر حسان بن ثابت - رضي الله عنه - على أداء رسالته الثقافية، ومهمته الشعرية، بل ساعده فيها حتى تخرج على أفضل صورة، يروي صاحب جمهرة أشعار العرب أبو زيد القرشي بسنده عن مجالد عن الشعبي قال:
أتى حسان بن ثابت إلى النبي، - صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله! إن أبا سفيان بن الحارث هجاك، وأسعده على ذلك نوفل بن الحارث وكفار قريش، أفتأذن لي أهجوهم يا رسول الله؟
فقال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: ((فكيف تصنع بي))؟ فقال: أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين! قال له: (( اهجهم وروح القدس معك، واستعن بأبي بكر، فإنه علامة قريش بأنساب العرب)).
فقال حسان يهجو نوفل بن الحارث:
وإنّ وُلاةَ المَجدِ مِنْ آلِ هاشمٍ *** بَنُو بِنْتِ مَخْزُومٍ، ووالدك العَبْدُ
وما وَلَدَتْ أَبْناءُ زُهرَةَ مِنْهُمُ *** صَممْيماً، ولم يلحقْ عَجائزَكَ المَجدُ
فأنتَ لئيمٌ نِيْطَ في آلِ هاشِمٍ *** كما نِيْطَ خلفَ الرَّاكِبِ القَدَحُ الفَرْدُ
ومن ثَمّ لا نعجب إذا رأينا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ذلك الرجل الحازم الصارم صاحب الدرة، يعي المسئولية المناط بتحقيقها في مجال الثقافة، فيُنشئ محكمة أدبية للحطيئة عندما جاءه الصحابي الجليل الزبرقان شاكيا منه، تروي المصادر الأدبية أن الحطيئة هجا الزبرقان بعد ما أحسن إليه بقصيدة جاء فيها:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه *** لا يذهب العرف بين الله والناس
فقال عمر: ما أسمع هجاء، ولكنها معاتبة!!
فقال الزبرقان: أو ما تبلغ مروءتي إلا أن آكل وألبس! والله يا أمير المؤمنين ما هُجيت ببيت قط أشد عليَّ منه.
فقال عمر: عليَّ بحسان، فجيء به، فسأله، فقال: أتراه هجاه!
قال حسان: نعم وسلح عليه!
فحبسه عمر - رضي الله عنه -.
وهذه أول محكمة أدبية نراها في تاريخ الدولة الإسلامية، فعمر الخليفة لم يكتفِ بفهمه وإدراكه للأبيات وهو العربي الفصيح، بل يُرسل إلى حسان الشاعر ولسان حال عمر أن أهل مكة أدرى بشعابها، ومن ثم يصدر أمره بالحبس بناء على شهادة تصدر من ذوي الخبرة وأصحاب المهنة، وهذه رسالة مهمة يجب التأكيد عليها أن السلطة في الحكومة الإسلامية هي سلطة مختصة لا سلطة فوقية، تقيم العدل على أسس واقعية وقواعد مهنية لا أسس مثالية وقواعد افتراضية.
وتكتمل المسئولية الثقافية للحاكم المسلم في هذه القصة عندما يطلب الحطيئة العفو ويرسل أبيات في غاية الروعة يصف فيها حاله وحال أولاده بعد حبسه، وفي إقرار ضمني بالدوافع التي دعته إلى اتخاذ الهجاء حرفة، إذ يقول:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخٍ *** زغبُ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجرُ
غادرْتَ كاسبَهم في قعر مُظلمة *** فارحم هداك مليكُ الناس يا عمرُ
أنت الإمامُ الذي من بعد صاحبه *** ألقى إليك مقاليدَ النُّهي البشرُ
لم يؤثروك بها إذ قدّموك لها *** لكن لأنفسهم كانت بك الأثرُ
فامنن على صبيةٍ بالرَّمْلِ مسكنُهم *** بين الأباطح يغشاهم بها القدرُ
نفسي فداؤك كم بيني وبينَهُمُ *** من عَرْضِ واديةٍ يعمى بها الخبرُ
فيعفو عمر - رضي الله عنه -، ويسعى إلى حل المشكلة من جذورها فيشتري منه أعراض المسلمين بثلاثة ألاف درهم على ألا يهجو أحدا من المسلمين.
إرسال تعليق