بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لا شك فيه أن قصائدُ عروةَ بنِ الورد ومقطعاته التي خلفها عالجت العديدَ من القضايا الاجتماعية والإنسانية، ونحن في هذا المقال سنسعَى إلى تقديم رؤيةِ هذا الشاعر الصُّعلوك للمرأة في صورة الأم.
لا بد للشاعر وقد تفجَّرت قَرِيحتُه، وانبرَى إلى صوغ المعاني الإنسانية الجميلة وتصويرها في قوالب شعرية منظومة، لا بد أن يَجعَلَ لمحيطه العائلي الخاص حيِّزًا مهمًّا ضمن ما يُبدِعُه من أشعار ومقطوعات، ولا بد – أيضًا – أن يَذْكُرَ أمَّه ووالدته التي كانت سببَ وجوده، وعلِّةَ نُموِّه إلى أن كَبِر واشتدَّ عودُه، واستقام إنسانًا كاملاً، وذلك عندما حضَنَتْه، وخافت من أجله، وأرضعتْه من ثديها أُولَى معاني الحياة.
لقد طالعتُ بعضَ الإنجازات الأدبيَّة التي جعلت موضوع أمير الصعاليك قضيَّتَها، ووقفت عند الحيفِ الكبير الذي أصاب هذا الشاعر النبيل، وذلك عندما وصفَتْه هذه البحوث بالعقوقِ والسُّخْطِ على أمه النزيعة المنحدرة من قبيلة نَهْد وضيعةِ الشَّرف، فما تبوحُ به أشعارُه ومقطوعاتُه المبثوثة في ديوانه أشياءُ أخرى، تختلف تمامًا، وتدحضُ تلك الادِّعاءات الباطلةَ دحضًا؛ إذ صحيح أنه لم يرضَ بتلك النِّسبة المقِيتة التي حَكَم بها عليه قدرُه إلى قبيلة نهد المشهورة بين قبائل اليمن بقلَّة الشرف وضعف الهِممِ والمجدِ؛ ما جعله يتحسَّرُ ويأسف أسفًا شديدًا على تلك الرابطة التي وصلَت أباه العبسي بأمه النهدية، الحسرةُ التي صدَحَ بها في أكثر من مقطوعة وقصيدة.
قال عروة:
وما بيَ من عارٍ إخال علمتُه
سوى أن أخوالي إذا نُسِبوا نَهْدُ
إذا ما أردتُ المجدَ قصَّر مجدُهم
فأعيا عليَّ أن يقاربَني المجدُ
فيا ليتهم لم يضربوا فيَّ ضربةً
وأنيَ عبدٌ فيهمُ، وأبي عبدُ
ثعالب في الحرب العوان فإن تبح
وتنفرجِ الجلى، فإنهمُ الأُسْدُ
غير أنه مع ذلك دافَع عن قضيَّته، مُخلصًا لأمِّه، بارًّا بها، ومُقدِّمًا إياها في أجمل حُلَّةٍ وأحلى صورة، وهو في الحقيقة أمر يسري على الأبناء كافَّة في عَلاقتهم بأمهاتهم، فبالأحرى هذا الشاعر العظيم الذي استطاع أن يتركَ في سجل الشعر العربي الجاهليِّ بصمةً إنسانية عميقةَ الأثر في النفس، ما ينفكُّ المهتمون والدارسون لقضايا الشعر العربي في سعي حثيث من أجل تفكيك شحناتها القوية، المُفْعمة بالنبل والإخلاص والوفاء، واستنطاق ما تَكْتَنِهه وتَكْتَنِزُه من معانٍ.
لقد أحبَّ عروةُ أمَّه حبًّا كبيرًا، وجعل يُفاخِرُ بها كلَّما سنَحَتْ له فرصة ذلك أمامَ كلِّ مَن عيَّره من قومه ببُعْدها ونزوعها، وكيف لا يَفعَلُ وقد أحبَّ الصَّعاليك والمشرَّدِينَ، وقام بشُؤونهم أحسنَ قيام، وعطَف على العَجَزَةِ والمُسنِّينَ الذين لجؤوا إليه بعد أن هجَرَهم أبناؤهم، وتركوهم فريسةً سهلةً لأنياب الدهر التي لا تَرحَمُ، فمن يَعطِفُ على الغيرِ، ويقدم له العونَ – أولى له وأجدَى وأحرَى به أن يحتفيَ بأمِّه التي أرقت من أجلِه وهو يقضُّ مضجعَها يومًا.
قال عروة:
أعيَّرتموني أن أمي نزيعةٌ
وهل يُنْجِبَنْ في القومِ غيرُ النوازعِ
وما طالبُ الأوتارِ إلا ابنُ حرة
طويل نجادِ السيف عاري الأشاجعِ
النزيعة: الغريبة، مِن نزَع عن أهله وعشيرتِه؛ أي: بَعُد وغاب، وأمه نهدية[1]، وقد كان العربُ يختارون إنكاحَ البُعداء والأجانب؛ ويَرَوْنَ أن ذلك أنجبُ للولد، وأبهى للخلة، ويجتنبون إنكاحَ الأهل والأقارب؛ ويرون أن ذلك مُضرٌّ بخلق الوَلَدِ، بعيد عن نجابتِه، ويقولون: إن تقاربَ الأنساب ذمٌّ للناس، والحديث: ((اغتربوا ولا تُضْوُوا))؛ أي: تزوجوا الغرائبَ دون الأقارب، فإن ولدَ الغريبة أنجبُ وأقوى من ولد القريبة، ومعنى: لا تضووا؛ أي: لا تأتوا بأولادٍ ضاوين؛ أي: ضعفاء نحفاء[2].
لقد عانى عروة كثيرًا، فمن جهة: كابدَ آلامَ الفاقةِ والحاجة، ومن جهة أخرى: أحاطت به أحزانٌ أشدُّ أثرًا ووطأة على النفس؛ بسبب نظرة قومه الدونيَّة إلى أصل أمِّه النزيعة، غير أن وحي شعرِه الذي خلَّفه من ورائه يُومِئُ بصبرٍ وبقوةٍ منقطعةِ النظير في مواجهة الواقع، فصعلوكٌ في مثل بأسِ وذكاء عروةَ لا يمكن أن يُهزَمَ بمجرد كلمات سيئة، تستهدِفُ النيلَ من عزيمته، والحطَّ من كرامته، يقذف بها في وجهه عنصريٌّ عاجز؛ لذلك نجدُه في البيتَيْنِ السابقين يجعلُ مَن دَأَب على تعييره بأصل أمِّه من قومه في حرج شديد، عندما يَضعُه أمام حقيقة آمن بها الجاهليُّون إيمانًا عميقًا، مُفادُها: أن خيرَ الرجال وأشجعَهم مَن أنجبَتْه امرأةٌ نزيعةٌ ذاتُ أصل بعيد، ولا يكتفي بهذا، ولكن يصفُ نفسَه أيضا بـ “ابن الحرة” الذي يَسعَى إلى الأمجادِ في شجاعة، وعلوِّ كعبٍ وإقدام، وهي صفاتٌ ما كان لينشأَ عليها لولا أمُّه التي عاشت حرةً مالكة لقرارِها ولرؤيتها الخاصة في الحياة، لا تَأْتمِرُ بأمر أحد، ولا تنتهي بنَهْيِه، كما كان حالُ نساء كثيرات، كابَدْنَ وعانَيْنَ، وكانت الحرية في نظرهن بمثابة ولادة جديدة، وحياة بعد موتٍ.
قال عروة:
وهم عيَّروني أن أمي غريبةٌ 

وهل في كريمٍ ماجدٍ ما يُعيَّرُ



لقد عاش عروةُ بنُ الورد في مجتمعه الظالمِ معيشةً قاسية، كلُّها آلامٌ وعنصرية وتهميش، ودفع من نفسه ثمنًا باهظًا؛ جرَّاء ثقافةٍ لا مسوِّغَ لها، تضعُ الغريبَ الفقير على الهامش وفي الدرجة السُّفْلى ضمن سلم المجتمعِ، وهو الأمر الذي كان يحزُّ في نفسه، ويُسبِّب له آلامًا تُمزِّقُ القلبَ، وتُقطِّعُ الأوصال، آلامٌ تفجَّرت في شكل تعبير شعريٍّ، تطرب له الأسماعُ، وتَتناغم مع معانيه الأذهانُ والعقولُ، وترسمُ صورةً ملحميَّةً لفارسٍ عنيد، استوعَبَ واقعَه، بل خَبَرَ الحياةَ وما ستؤول إليه من نهاية مأساوية، لن يأمنَها أحدٌ من الخلقِ.
من أجل ذلك؛ جابَه مُحتقرِيه، ووقف لهم ندًّا مهابَ الجانب، يردُّ لهم الصَّاعَ صاعَيْنِ، عزموا على إهانته، والنيل منه، وإبعاده إلى الهامش؛ لكنه تمكَّن بكدِّه واجتهاده وأعمال الإغارةِ والسلب والنهب التي نهَجَها في حياته من أن يجعلَ الهامشَ مركزًا، ومن أن يحظَى بالتوقير والاحترام، هذا ما تُؤكِّدُه أخبارُه وأشعارُه، ففي البيت السابق يبدو وكأنه يَصرُخُ بأعلى صوته متسائلاً في حالة لومٍ وعتابٍ لأولئك الذين دَأَبوا على تعييره بأصل أمِّه النزيعة، لافتًا نظرَهم إلى أن ما حقَّقه من أمجاد وبطولات، وما عُرِف عنه من كرمٍ، واحتضان للمعوزين في وفاء ونكرانٍ للذاتِ سارَتْ بذِكره الركبان – يَشفَعُ لأمِّه، وينأى به عن موضع التحقير والازدراء، ويُبوِّئُه ما هو حَقيقٌ به من مكانة وسُمْعةٍ.
________________________________________
[1] ديوان عروة بن الورد؛ شرح ابن السكيت ص: 158.
[2] نفس الصفحة: 158-159
إرسال تعليق