صفعة على وجه الانسانية

صفعة على وجه الانسانية

 




صفعة على وجه الانسانية 

بقلم:

ا.د ابراهيم محمد مرجونة 


في مدينة السويس، التي كانت يومًا تختصر معنى الكرامة والصبر، حدث ما تجاوز حدود الجسد إلى أعماق الروح.

صفعة واحدة وُجّهت إلى رجلٍ مسن، لكنها دوّت كالصدى في جدران المدينة كلها؛ صفعةٌ لم تلمس وجهه وحده، بل لامست كرامتنا الجماعية، وأيقظت السؤال المؤلم:

هل ما زالت الرحمة تسكن بيننا؟



كان المشهد أشبه بطعنة في ذاكرة المكان؛ مدينةٌ عرفت معنى التضحية، تُصبح شاهدًا على انكسار إنساني موجع.

لقد كنا نعتقد أن احترام الكبير أمرٌ فطري فينا، فإذا بنا نرى تلك القاعدة تتهاوى أمام أعيننا.

يقول الله تعالى:


> ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23].




وفي الحديث الشريف:


> «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا» (رواه الترمذي).




لكن بين النص والواقع، مسافة مؤلمة… مسافة صنعتها قسوة الأيام، وغربة الإنسان عن نفسه.




إن ما جرى ليس حادثة أخلاقية عابرة، بل مأساة وجودية بكل معنى الكلمة.

كما قال الفيلسوف شوبنهاور: "الرحمة هي الأساس الحقيقي لكل الأخلاق."

فحين تُصفع الرحمة على وجهها، فإن ما يُصاب ليس المسن، بل جوهر الإنسان ذاته.

لقد أصبحنا نمرّ بجوار المآسي كما يمرّ العابر أمام جدارٍ قديم، دون أن يتوقف قلبه للحظة.

وهذا — كما يرى إريك فروم — هو أخطر أشكال الموت، حين “يتحول الإنسان إلى شيءٍ لا يشعر.”



في الفلسفة الوجودية، يقول سارتر إن "الآخر هو مرآتي التي أرى بها نفسي."

لكن أيُّ صورة نراها اليوم حين ننظر في تلك المرآة؟

وجوه متعبة، قلوب متحجرة، وأعين لم تعد ترى في الضعيف إلا عبئًا.

نحن لا نفقد إنسانيتنا فجأة، بل نفقدها ببطء… حين نصمت أمام الإهانة،

وحين نُبرر القسوة بحجج المنفعة، وحين نُطفئ في داخلنا شعلة الرحمة.



الصفعة التي تلقاها المسن كانت صفعة على وجه المدينة بأكملها بل صفعة على وجهنا جميعاً.

لقد أيقظتنا على حقيقة أننا لم نعد كما كنا؛أننا فقدنا تلك البساطة التي تجعل من “إكرام الكبير” فعلًا طبيعيًا،

ومن “الرحمة” مبدأً أصيلًا لا شعارًا يُرفع في المناسبات.


يقول الله تعالى تذكيرًا بدورة الحياة وواجب الرقة تجاه الضعف الإنساني:


> ﴿وَمَن نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ [يس: 68].


تلك الآية تضعنا أمام مرآة العمر والضعف، لتُخبرنا أن الرحمة ليست تفضّلًا، بل واجب البقاء الإنساني.


لقد أصبحنا نحيا في زمنٍ تتسارع فيه الأشياء حتى لم يعد القلب يجد وقتًا ليشعر.

في زحام اليوميّات وضجيج الشاشات، تتبخر المشاعر كما يتبخر الماء من صخرٍ حار.

لكنّ الله لم يخلقنا حجارة، بل قلوبًا تعرف معنى اللين.

وما أضيق الحياة حين تُخلو من تلك اللمسة الدافئة التي تقول للآخر: "أنا أراك."


إن الحادثة المؤلمة ليست نهاية القصة، بل بدايتها.

إنها نداء خفيّ يقول لنا: أفيقوا، فالرحمة تناديكم.

كما قال نيتشه: "المجتمع الذي لا يحمي ضعفاءه لا يستحق قوته."

فالرحمة ليست ضعفًا، بل هي أعلى درجات القوة، لأنها تقدر أن تحنو في زمنٍ لا يعرف إلا الخشونة.






فلنقف قليلًا أمام تلك الصفعة، لا لنشجب فاعلها فقط، بل لنفتش داخل أنفسنا عن مواضع الخشونة التي تسللت إلى ق


لنُعيد ترميم إنسانيتنا التي تهشّمت تحت ضغط الحياة، ولنحمل رسالة بسيطة لكنها جوهري


أن الرحمة هي ما يبقينا بشرًا، وما يجعل للكرامة معنى، وللوطن روحً




قد ينسى الناس تفاصيل الحا


لكنهم لن ينسوا الوجع الذي تركته في أعماقه


فالصفعة التي سقطت على وجه رجلٍ واح


كانت في الحقيقة جرس إنذارٍ لبلد بأكملها


أن تُعيد اكتشاف إنسانيتها قبل أن تُصفع مرةً أخر


لكن هذه المرة… على وجه الضمير نفسه.ى، :د،م.دثة،ا.ة:لوبنا.

اكتب تعليق

أحدث أقدم