أرشيف الذكريات المنسية "حين"

أرشيف الذكريات المنسية "حين"

 


✍️بقلم/ آية محمود رزق

يقرر العقل إخفاءك عنك

منذ اللحظة الأولى التي نفتح فيها أعيننا على هذا العالم، يبدأ العقل في تسجيل كل شيء، الصوت الأول، النور الأول، اللمسة الأولى، الارتباك، الصراخ، البكاء، ثم تأتي الكلمات، ثم الألوان، ثم تتوالى الأحداث حتى تمتلئ الذاكرة، لكنها لا تحتفظ بكل شيء، بل تبدأ منذ اللحظة الأولى في ممارسة عادة غريبة جدًا: النسيان، ولعل أغرب ما في النسيان أنه لا يأتي بإرادتنا، لا نقول للعقل: أرجوك انسَ، وهو لا يسألنا: هل تريدين أن تمحي هذه اللحظة؟ بل يتخذ القرار وحده، كأنه كائن مستقل، يملك مفاتيح أبواب لا نعرفها، ويدفن خلفها كل ما يرى أنه لا يليق بالبقاء في المقدمة، وشيئًا فشيئًا يصبح العقل أرشيفًا ضخمًا، مكدسًا بالملفات المغلقة، التي لا نملك مفاتيحها، نعلم أننا رأينا أشياء، وعشنا لحظات، لكننا لا نتذكر، وهناك شيء غريب يحدث حين نحاول أن نتذكر، كأن العقل يضع بيننا وبين الذاكرة حاجزًا شفافًا، نشعر أن المعلومة قريبة، وأنها على طرف اللسان، لكنها تختفي فجأة، كأنها تتهرب، كأن هناك قرارًا خفيًا بألا نصل إليها، والسؤال هنا: لماذا يقرر العقل إخفاء لحظة؟ ولماذا لا يحق لنا أن نتذكر كل شيء؟ بعض العلماء يقولون إن النسيان وظيفة حيوية، وأنه لولا النسيان لانفجر العقل، تمامًا كما ينفجر القرص الصلب في الحاسوب إن تم ملؤه، لكنّ النسيان في الإنسان أعمق من ذلك، لأن بعض الذكريات المنسية حين تظهر في جلسة علاج نفسي مثلًا، تسبب انهيارًا كاملاً، وهذا يعني أن العقل لا ينسى عشوائيًا، بل يحميك، العقل مثل أم خائفة تحجب عنك صورًا مؤلمة كي لا تفقد اتزانك، لكن المشكلة أن هذه الصور لا تموت، بل تظل حية في الظل، تنتظر اللحظة المناسبة لتظهر، أحيانًا تظهر في الحلم، وأحيانًا في نوبة هلع، وأحيانًا في موقف عادي يفجر شيئًا دفينًا بداخلك دون أن تفهم السبب، كأنك عثرت على مفتاح عشوائي، فتح لك بابًا لم تكن تريده، وهنا ندخل منطقة غامضة جدًا: هل الذكريات المدفونة تنسى فعلًا؟ أم أنها فقط "مخدّرة"؟ وإذا كنا نملك أرشيفًا داخليًا يحتوي على كل شيء، فهل من حقنا أن نطالب العقل بفتحه؟ ولماذا نخاف من أن نتذكر؟ ولماذا حين نتأمل صورة قديمة نشعر وكأن هناك جزءًا منا مات؟ وماذا لو كانت هناك أحداث لم نتذكرها أبدًا، لكنها كانت السبب الحقيقي في تكوين شخصيتنا؟ هل نظرت يومًا في المرآة وسألتِ نفسك: من أنا الآن؟ ولماذا أصبحت هكذا؟ قد تكون الإجابة في لحظة منسية، في كلمة قاسية قيلت لك في الطفولة، في موقف محرج دفنه عقلك كي لا يتحطم كبرياؤك، في فقدان، أو خذلان، أو حتى في لحظة حُب خجلت من الاعتراف بها، العقل لا ينسى كل ما هو مؤلم فقط، بل ينسى أحيانًا كل ما هو "غير مكتمل"، الأشياء التي لم نفهمها وقت حدوثها، الذكريات التي وقعت في فجوة الوعي، اللحظات التي لم نجد لها تفسيرًا، وقد يكون النسيان حينها نوعًا من التجميد، يؤجل العقل مواجهتها حتى ننضج، حتى نصبح قادرين على الفهم، وهنا تتحول الذاكرة إلى كتاب لا يُقرأ دفعة واحدة، بل تُفتَح صفحاته على مراحل، وربما لذلك حين نتقدم في العمر، نبدأ في تذكر أشياء من الطفولة كأنها خرجت من العدم، لكنها لم تكن عدمًا، بل كانت محفوظة في ملف مؤجل، لكن هل يمكن للعقل أن يخدعنا؟ هل يمكن أن يزرع فينا ذكريات غير حقيقية؟ الإجابة الصادمة: نعم، فالدماغ قادر على أن يخلق وهمًا كاملًا، ويقنعك أنك عشته، وكم من ناس أقسموا أنهم رأوا شيئًا، ثم ثبت أنه لم يحدث، وهنا يصبح الفرق بين الحقيقة والوهم هشًا جدًا، ويصبح السؤال المرعب: كم من ذكرياتك حقيقية؟ وكم منها مجرّد قصة سردها لك عقلك كي تستمر؟ هل نحن ضحايا نسيان… أم ضحايا أكاذيب؟ وهل كل ما نسيْناه كان يجب أن يُنسى؟ أم أن هناك شيئًا دفن وهو يصرخ؟ لو أتيح لك الآن أن تستعيد كل ذكرياتك، كل ما نسيتِه منذ لحظة ميلادك، هل ستقبلين؟ تخيلي أن هناك جهازًا يستطيع سحب كل ملفاتك العقلية، ويعرضها أمامك بلا ترتيب، سترين ما تحبين، وما تخجلين منه، وما تحاولين نسيانه، وما لم تعرفي أصلًا أنه حدث، هل يمكن لإنسان أن يحتمل هذا؟ العقل لا ينسى كل شيء، لكنه يخبئ، ينتقي، يفلتر، يطوي، ويحكم الإغلاق، ليس دائمًا لأنه خائف، بل أحيانًا لأنه يعرف أكثر منك، يعرف أنك ما زلتِ هشة، وأن استعادة لحظة واحدة قد تعيد فتح الجرح، لذلك يختار أن يصمت، أن يدفن، أن يُنسيك، ليس لأنك ضعيفة، بل لأنك إنسان، والإنسان لا يُخلق كاملًا، بل يُبنى على مراحل، وكل مرحلة تحتفظ بذاكرتها، وتخفي ما لا يلزم، وفي النهاية نحن لسنا فقط ما نتذكره، بل نحن أيضًا ما ننساه، وربما كان الأهم فينا هو ما اختفى، لأن في أعماق الأرشيف المنسي تقبع الحقيقة، ليس عن الماضي فقط، بل عن أنفسنا، عن حقيقتنا العارية التي لا نجرؤ على النظر إليها، عن الأنا الأصلية التي تراكمت عليها طبقات من النسيان والإنكار والتجميل، نحن نعيش بنصف ذاكرتنا، ونخاف النصف الآخر، ونحن لا نخشى ما نسيناه، بل نخشى أن نراه من جديد، لأن الذاكرة ليست مجرد سجل، بل مرآة، والمرايا لا ترحم، وفي عمق عمقنا تسكن تلك النسخة القديمة منا، تبكي بصمت، تنتظر أن نفتح الباب ونراها، فهل نملك الشجاعة لنفعل؟

اكتب تعليق

أحدث أقدم