النسيان الانتقائي: هل ننسى ما نريد أم ما نخشى؟
بقلم: آية محمود رزق
النسيان لم يكن يومًا عيبًا في الذاكرة، بل هو سلوك مقصود، آلية خفية لا تشتغل وفق إرادتنا المباشرة، لكنها تشبه من يمسح الغبار عن مرايا مختارة، ثم يكسو الباقي بستائر معتمة. عندما نفكر في ما نسيناه، لا يخطر ببالنا أن ما ضاع لم يكن عبثًا، بل اختيارًا، فالعقل يمارس نسيانًا انتقائيًا، يقصّ من شريط الذاكرة ما لا يريده أن يستمر، أو ما لا يتحمل مواجهته، نحن لا ننسى بشكل عشوائي، بل نخفي، نتجاهل، نضع أشياء بعينها في درج خلفي، ثم نغلقه جيدًا، ونرمي المفتاح في النهر.
هل سبق لك أن شعرت بارتباك حين قابلت شخصًا تعرفينه جيدًا لكنك نسيت اسمه؟ ليس لأنه بلا قيمة، بل لأنك من داخلك أردت نسيانه، لأنه مرتبط بشيء مؤلم، أو لأنه يمثل لحظة من حياتك لا تحبين العودة إليها. هل تساءلتِ يومًا لماذا لا تتذكرين تفاصيل مواقف محرجة جدًا مرت بك رغم أنك شعرت حينها أن العالم انهار؟ السبب ببساطة أن عقلك قام بعملية "حذف" انتقائي، ليس لأنه لا يستطيع أن يتذكر، بل لأنه لا يريد. النسيان هنا ليس فشلًا في الذاكرة، بل قرار داخلي بالبقاء، بالحماية، بالاستمرار.
هناك نوع من النسيان يدعى "القمع"، وهو أن يدفن العقل الذكريات التي تثير الخوف أو الصدمة أو الإحراج، وهذا ما يحدث في حالات التحرش أو الحوادث العنيفة، وقد يظل الإنسان سنوات لا يتذكر ما حدث، إلى أن يسترجع لحظة واحدة كفيلة بفتح الباب فجأة، وقد ينهار، لأن ما تم قمعه كان شديد التأثير، لكنه ظل ساكنًا في الخلفية، وهذا يعني أن النسيان ليس فقدانًا، بل تأجيلًا للعرض.
لكن النسيان ليس فقط دفاعًا، بل أحيانًا يكون خيانة داخلية، العقل قد يخفي لحظة حب قديم لأنه يخشى أن يبعث فيكِ شوقًا يعطلك عن المضي، أو يمحو صوتًا معينًا لأنه كان مصدر ضعف، وقد ينسى أصدقاء الطفولة لأنهم يذكّرونك بضعفك القديم. فهل نحن من يقرر ما يُنسى؟ أم أن العقل لديه أجندة خفية؟ وهل يمكن أن نمارس النسيان انتقائيًا بوعي؟ نعم، نحن نفعل ذلك حين نقرر ألا نفتح رسائل شخص بعينه، أو نمسح صوره، أو نغلق المكان الذي يربطنا به، نحن نحاول تلقين العقل أن "ينسى" هذا، وننجح أحيانًا، ونتعثر أحيانًا، لكن الأكيد أن هناك شيئًا فينا يعرف بالضبط ما يجب طرده من الذاكرة.
وهناك من يعتبر النسيان الانتقائي نوعًا من التحرر، أن تبقي فقط على ما يشبهك، ما يقويك، ما يشعرك بالأمان، وتقصي ما يشوه صورتك أمام نفسك. لكن الخطر يكمن حين يصبح هذا النسيان قناعًا يخفي حقيقتك، حين تنسى خيانتك، أو خذلانك للآخرين، أو جبنك في لحظة ما، لأنك لا تريد أن ترى نفسك ضعيفًا. وهنا لا يصبح النسيان حماية… بل تزويرًا للذات.
النسيان الانتقائي هو كتابة قصة ذاتك من جديد، بحذف مشاهد لا تروق لك، لكنه لا يعني بالضرورة الشفاء، فكل ما ننساه يعود، بطريقة أو بأخرى، في موقف، في حلم، في شخص جديد يشبه من نسيناه، أو في صدمة صغيرة تفتح كل شيء فجأة.
في أعماقنا نعلم أن هناك لحظات اخترنا نسيانها، ليس لأنها تافهة، بل لأنها مؤلمة، مخزية، أو مربكة، ولذا ندفنها تحت طبقة من التجميل واللامبالاة، لكننا في وحدتنا نسمع همسها، ندرك أنها لم تختفِ، وأنها تنتظرنا خلف باب العقل، تسأل: هل نضجتِ كفاية لتري؟
إرسال تعليق