مجد القاسم... صدى الروح الذي لم يُكتب
بقلم / آية محمود رزق
في عالمٍ يركض وراء الضوء، ويُصفّق للضجيج، هناك من اختار أن يغني في الظل، أن يكون الصوت لا الصدى، النغمة لا الضوضاء. هذا هو مجد القاسم، فنان لم يُعطَ ما يستحق، لأنه ببساطة لم يطلب شيئًا، فقط غنى.
وُلد مجد القاسم في بلدة "الثعلة" جنوب سوريا، في بيت يفيض بالثقافة، والده كان شاعرًا معروفًا، وأمه – أطال الله في عمرها – امرأة تحفظ الأغاني القديمة وترددها كأدعية مقدسة. منذ صغره كان يسمع المواويل تنبعث من الجبال، وكان يشعر أن صوته يملك شيئًا لا يملكه غيره، لكنه لم يكن متعجلاً.
درس مجد الأدب الإنجليزي، فكان للكلمة وقع خاص في قلبه، وجعلته قراءاته يطوّع الأغنية بأسلوبه المميز. أحب كيف يُمكن للحنٍ واحد أن يضمد جرح القلب بطريقة لا تفعلها أقوى المسكنات، فاختار الفن طريقًا لحياته.
في بداية مشواره، انتقل إلى لبنان ثم إلى مصر باحثًا عن بداية لا تشبه أحدًا. كانت البداية متواضعة، لا يعرفه أحد، لكنه كان يعرف نفسه. وعندما غنى "غمض عينيك"، لم يكن صوتًا جديدًا فقط، بل حالة شعورية اجتاحت وجدان المستمعين. الأغنية لم تكن ضربة حظ، بل كانت شيفرة تعريف، بطاقة عبور إلى القلوب، حيث لا يحتاج الفنان إلى لقب بل إلى صدق.
مجد لم يكن ابن الصدفة، بل ابن الإصرار. في مصر، بلد الفن وموطن الأساطير، رفض أن يكون تابعًا لأحد، لم يتبع المنتجين الذين أرادوا تحويله إلى نسخة مكررة، لم يُساوم على صوته ولا على صورته، لهذا ظل صادقًا وبعيدًا عن السوق الذي يستهلك الفن ويترك القلوب خاوية. اختار أن يغني للحب، للأم، للصدق، للحزن النبيل.
ورغم نجاحاته، ظل مجد يعاني من التهميش الإعلامي، لم يكن صاخبًا بما يكفي ليظهر، ولم يكن جزءًا من "شلل الوسط"، فدفع ثمن استقلاله، لكنه لم يندم. يقول في أحد لقاءاته: "الغناء مثل الصلاة... لا يجوز فيه الرياء"، ولهذا ظلّ يغني بقلبه، حتى حين لم يعد أحد يسمع.
بعيدًا عن الأضواء، يعيش مجد القاسم إنسانًا بسيطًا، يحب العزلة، يقرأ الشعر، ويكتب خواطره على دفتر صغير يحتفظ به منذ أيام الجامعة. عاش قصص حب لم تُعلن، وأحب أمه حتى الثمالة، وكانت أغنيته "بحبك يا أمي" بمثابة نداء من الأعماق، وهو اليوم يكرر دعاءه بأن يحفظها الله له ويطيل عمرها.
مجد لم يكن فنان "التريند"، بل كان فنان "الزمن"، ذلك الذي لا يُقاس بالمشاهدات، بل بالبصمات. أغانيه تسكن الذاكرة دون ضجيج، وتحضر فجأة حين نكون وحدنا، تمامًا مثله. في زمن المهرجانات والفرقعات الصوتية، ظلّ صوته نقيًا، مثل نبع بعيد لا يعرفه سوى العطشى.
عاد مجد في السنوات الأخيرة، لا لينافس أحدًا، بل ليكمل ما بدأه، بشعر أبيض في رأسه، لكن بنبرة أكثر صدقًا. غنّى "وعدي"، وكأنه يعتذر للجمهور الذي أحبه بصمت، ويقول لهم: "أنا هنا... لم أذهب، فقط كنت أبحث عن نفسي بين الأغاني".
لم يُكتب الكثير عن مجد القاسم لأنه لم يكن من أصحاب العناوين البراقة، لكنه ظلّ دائمًا ذلك الصوت الذي نعود إليه حين تضيق أرواحنا. هو الفنان الذي مرّ من هنا، دون أن يصرخ، لكنه ترك فينا رجعَ نغمة لا تنتهي.
مجد القاسم ليس فقط مطربًا، بل هو مرآة لمرحلة، لرومانسية لم تندثر، ولقلبٍ ظلّ يصدق أن الفن يمكن أن يكون رسالة لا تجارة، دعاءً لا إعلانًا، حياةً لا شهرة.
كتبنا عنه اليوم كما لم يُكتب من قبل، لا لنمدحه، بل لنرد له بعض ما منحه لنا من دفءٍ وصدق، نحن الذين سمعنا صوته فهدأنا، حتى دون أن نعرف اسمه.
إرسال تعليق