مقال بعنوان: الغبي النشيط "حين يتحوّل النشاط إلى لعنة"
بقلم ا.د ابراهيم مرجونة
هناك صنوف عديدة للبشر منهم الذكي النشيط ، والذكي الكسول ، والغبي النشيط ، والغبي الكسول ، أفضلهم على الاطلاق الذكي النشيط والأسود بلا شك الغبي النشيط.
ففي أروقة العقل البشري تتقاطع المتناقضات: ذكاء يضيء العقول في مقابل غباء يحجب الرؤية، نشاط يبعث الحياة في مقابل كسَل يطفئ جذوة الإرادة.
غير أن أخطر ما يمكن أن يواجهه الإنسان والمجتمعات معاً ليس الغباء وحده، ولا الكسل بمفرده، بل ذلك الخليط العجيب الذي يتجسد في "الغبي النشيط".
إنه ذلك الكائن الذي يهرول بلا تفكير، يندفع بلا بصيرة، ويعتقد أن حركته المتواصلة دليل حياة، بينما هي في حقيقتها تيهٌ وإهلاك. فالنشاط إذا لم يقترن بعقل بصير يتحول إلى قوة هدامة، كالمحراث الذي يحرث أرضاً بوراً لا تصلح للزراعة، فيزيدها قحطاً فوق قحط.
لقد تنبّه الفلاسفة منذ قرون إلى هذه المفارقة.
فكارلو ماريا شيبولا حين كتب عن قوانين الغباء، أشار إلى أن أخطر درجاته هو حين يمتزج بالحركة المستمرة. فالغباء الراكد قد يؤذي صاحبه فقط، أما الغباء المتحرك فإنه يمتد كالنار في الهشيم، يجر وراءه الدمار بلا قصد، ويظن أنه ينجز وهو في الحقيقة يضاعف الخراب. وابن الجوزي بدوره أدرك هذه المعادلة حين ميّز بين الغبي الساكن الذي لا يتجاوز ضرره محيطه، والغبي المتحمس الذي يُفسد بحماسه كل نظام ويقلب الموازين بجهلٍ لا يعرف التوقف.
ولم يكن الأدب بعيداً عن هذا التصنيف المرير. فالمتنبي حين هجى الحمقى لم يكن يسخر فحسب، بل كان يحذّر من آثار الحماقة حين تمتزج بالطموح الكاذب. وسقراط بدوره رأى أن الجهل لا يُخيف إذا بقي في سكونه، لكنه يصبح خطراً إذا تحرّك بلا وعي، إذ يتحول إلى قوة صمّاء لا تسمع صوت العقل، كالنار التي تلتهم الحقول بدلاً من أن تمنح الدفء.
إن الغبي النشيط ليس مجرد شخصية عابرة في التاريخ، بل هو نمط متكرر نراه في دوائر المجتمع بتعدد اطيافه وفئاته وطباقته، وفي جميع ميادين العمل، وحتى في تفاصيل حياتنا اليومية.
فعل سبيل المثال هو الموظف الذي يملأ المكتب ضجيجاً بقراراته الخاطئة، وهو الحاكم الذي يظن أن كثرة التحركات دليل على إنجاز، بينما هي بوابة إلى الفوضى، وهو الفرد العادي الذي يندفع في طرق لا يعرف مآلاتها، فيُرهق نفسه ومن حوله.
وهنا يكمن الدرس البليغ: النشاط ليس فضيلة مطلقة، بل قد يكون نقمة إذا لم يستند إلى حكمة. والعقل ليس وحده ضمانة، بل يحتاج إلى التوازن بين الفكر والقرار، بين الفعل والتروي. لذلك، فإن أخطر ما يمكن أن يُبتلى به مجتمع هو أن يتصدّر صفوفه غبي نشيط، يرفع الشعارات ويقود المسيرات، لكنه لا يعرف أين يسير.
إن التاريخ والفلسفة والأدب اجتمعوا على هذا التحذير: الغبي النشيط أخطر من العدو المعلن، لأنه يتلف باسم البناء، ويهدم وهو يظن أنه يعمّر. ومن هنا وجب أن نتعلم كيف نزن الأمور، ونفرّق بين النشاط المبصر والحركة العمياء، فنكبح جماح الحماسة حين تنفصل عن البصيرة، ونشعل مصابيح العقل قبل أن نخطو أي خطوة.
فالنجاة لا تكون بكثرة الحركة، بل بحكمة الاتجاه، ولا بكثرة الأفعال، بل بصفاء الرؤية. والغبي النشيط يظل المرآة المظلمة التي تذكّرنا دائماً بأن الوعي هو الشرط الأول لكل فعل، وأن الطاقة بلا عقل قد تتحول إلى أداة فناء لا تقل خطورة عن الجهل نفسه.
إرسال تعليق