تآكل الهوية وتفكك الانتماء
بقلم ا.د إبراهيم محمد مرجونة
في زمنٍ تتشابك فيه خيوط العولمة، وتتصارع فيه الثقافات كالأمواج المتلاطمة،وسيطرت الرقمنة والعالم الافتراضي بكل ما حوى من وسائل وتحكم الذكاء الاصطناعي ، تبدو الهوية الوطنية كجُرحٍ غائرٍ في جسد الشعوب، ينزف بهدوء لكنه لا يلتئم.
لم تعد الهوية تلك العلامة البسيطة التي نُعرّف بها أنفسنا، بل غدت ذاكرةً حيّةً تختزن تاريخ الأمة، وروحًا تُبقي الإنسان متصلًا بجذوره، كأنها جسرٌ بين الماضي والحاضر، يحمل عبق الأرض وصوت الأجداد.
غير أنّ هذا الجسر بدأ يتآكل شيئًا فشيئًا؛ إذ تتفكك الرموز، وتضيع السرديات، وتُختزل المعاني في صورٍ عابرة لا تحمل عمق الانتماء. ومع كل خيطٍ ينقطع من نسيج الذاكرة الجمعية، تزداد الأرواح تشرذمًا وانعزالًا، ويُستبدل الانتماء المشترك بنزوعٍ فرديٍّ أناني، كأنّ كل إنسانٍ بات جزيرةً صغيرة وسط محيطٍ من الغربة.
إنها مأساة الذات الجمعية التي فقدت انسجامها. حالة من الانقسام الداخلي تُشبه ما وصفه الفيلسوف بلانشو حين تحدّث عن "الخيانة الصامتة" — تلك التي لا تتمثل في الفعل الظاهر، بل في تخلي الإنسان عن جزءٍ من كيانه الوطني، في انصهاره المفرط بالآخر، وفي انقطاعه التراجيدي عن جذور التاريخ التي أنجبته.
وفي لحظات كهذه، يقف الأدب عاجزًا أحيانًا أمام ضجيج الانهيار، لكنه يظل المرآة الأكثر صدقًا لالتقاط ملامح هذا الضياع. فالأدب لا يوثق فقط ما حدث، بل يكشف ما انكسر داخل الإنسان.
من خلاله نقرأ كيف انعكست أوجاع الهوية في النصوص المغاربية والعربية، التي جسّدت الصراع بين الوفاء للتراث ومجاراة التحول. كما نجد في صفحات التاريخ شواهد متكرّرة على أن سقوط الدول لم يبدأ من ضعف السلاح، بل من وهن الانتماء، ومن تصدّع الإيمان بالجماعية.
فالانتماء ليس شعارًا يُرفع، بل وعدٌ خفيّ بين الفرد ووطنه، يتجلّى في إحساسٍ داخليٍ بالمسؤولية نحو الأرض والثقافة والمصير المشترك. حين تضعف هذه الصلة، لا تفقد الأمة معناها فحسب، بل تفقد نبضها، وتتحوّل إلى كيانٍ بلا ذاكرة، تحكمه العزلة واللامبالاة.
لكن، من بين هذا الركام، ينهض دائمًا أملٌ جديد. فكل أزمة هوية هي أيضًا نداءٌ للوعي، وبذرةٌ لإعادة التكوين.
إن إعادة بناء الذات الجمعية تبدأ من الوعي النقدي، من استعادة الحكاية التي جمعتنا، ومن كتابة سردٍ جديدٍ لا يمحو الماضي بل يُنضجه.
من هنا، يصبح القلم أكثر من أداة كتابة؛ إنه سلاحٌ للحفاظ على الذاكرة، ومرآةٌ تعكس ما تبقّى من الإنسان فينا.
على الكاتب والمفكر والمؤرخ والأديب والمثقف وكل معني بالقضية أن يقفوا صفًا واحدًا في وجه التآكل الصامت، أن يكتبوا لا لمجرد التوثيق، بل لإحياء الروح، لاستعادة الوطن في القلوب قبل الجغرافيا، ولإعادة التاريخ إلى مساره الطبيعي كذاكرةٍ حيةٍ وضميرٍ للأمة.
إرسال تعليق