بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الحَضَارة “نظام اجتماعي يُعين الإنْسَان على الزيادة من إنتاجه الثَّقافي”، وتتألف الحَضَارة من العناصر الأربعة الرئيسة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقيَّة، ومتابعة العلوم والفنون، ولاطِّرَاد الحَضَارة وتقدُّمِها عواملُ مُتعددة: جغرافية، واقتصادية، ونفسية؛ كالدِّين واللغة والتربية، ولانْهيارها عواملُ هي عكس تلك العوامل التي تؤدِّي إلى قيامها وتطوُّرِها، ومن أهمها: الانحلال الخُلُقي والفِكري، واضطراب القوانين والأنظمة، وشيوع الظُّلم والفقر، وانتشار التَّشاؤم واللامبالاة، وفقدان الموجهين الأكْفَاء، والزُّعماء المخلصين.
وقصة الحَضَارة تبدأ مند خُلِقَ الإنْسَان، وهي حلقة مُتصلة تسلمها الأمَّة المُتحضرة إلى من بعدها، ولا تَختص بأرض ولا عِرْق، وإنَّما تنشأ من العوامل السَّابقة التي ذكرناها، ويكاد لا تخلو أمَّة من تسجيل بعض الصَّفحات في تاريخ الحَضَارة، غير أنَّ ما تَمتاز به حَضَارَة عن حَضَارَة إنَّما هو قوَّة الأسس التي تقوم عليها، والتأثير الكبير الذي يكون لها، والخير العميم الذي يُصيب الإنْسَانية من قيامها، وكلما كانت الحَضَارة عالمية في رسالتها، إنسانية في نزعتها، خلقية في اتجاهاتها، واقعية في مبادئها، كانت أخلد في التَّاريخ، وأبقى على مرور الزَّمن، وأجدر بالتكريم.
وحَضَارتنا حلقة من سلسلة الحضَارَات الإنْسَانية، سبقتها حضارات، وتبعتها حضارات، وقد كان لقيام حَضَارتنا عوامل، ولانهيارها أسباب، ليست هي ما تعنيه هذه السلسلة من أحاديثنا، وإنَّما نريد – قبل أن نبدأ الحديث عن روائع هذه الحَضَارة – أن نتحدث عن دورها الخطير في تاريخ التقدُّم الإنْسَانيِّ، ومدى ما قدَّمته في ميدان العقيدة والعلم، والخُلُق والحُكْم، والفن والأدَب من أيادٍ خالدة على الإنْسَانية في مُختلف شُعُوبها وأقطارها.
إن أبرز ما يلفت نظر الدارس لحضارتنا أنها تميزت بالخصائص التالية:
– أنَّها قامت على أساس الوحدانية المُطلقة في العقيدة؛ فهي أول حَضَارَة تنادي بعبادة الله الواحد الذي لا شريك له في حُكمه وملكه، وهو وحده الذي يُعبد، وهو وحدَه الذي يُقصد؛ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وهو الذي يُعِزُّ ويُذِل، ويعطي ويَمنع، وما من شيء في السَّموات والأرض إلا وهو تحت قُدرته وفي مُتناول قبضته.
هذا السُّمُوُّ في فَهم الوحدانية كان له أثرٌ كبيرٌ في رفع مُستوى الإنْسَان، وتحرير الجماهير من طُغْيَان الملوك والأشراف والأقْوياء ورجال الدِّين، وتصحيح العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، وتوجيه الأنظار إلى الله وحدَه، وهو خالقُ الخلق وربُّ العالمين، كما كان لهذه العقيدة أثرٌ كبيرٌ في الحَضَارة الإسلاميَّة، تكاد تتميَّز به عن كل الحضَارَات السَّابقة واللاحِقَة، وهو خُلُوُّها من كلِّ مظاهر الوثنية وآدابها وفلسفتها في العقيدة والحُكْم والفن والشِّعر والأدَب، وهذا هو سِرُّ إعراض الحَضَارة الإسلاميَّة عن ترجمة “الإلياذة” وروائع الأدَب اليوناني الوَثَني، وهذا سِرُّ تقصير الحَضَارة الإسلاميَّة في فنون النحت والتصوير، مع تَبريزها في فنون النَّقْش والحفر وزخرفة البناء.
إنَّ الإسلام الذي أعلن الحربَ العوانَ على الوثنية ومظاهرها – لم يسمحْ لحضارته أنْ تقوم فيها مظاهرُ الوثنية وبقاياها المُستمرة من أقدم عُصور التَّاريخ؛ كتماثيل العُظماء والصالحين والأنبياء والفاتحين، وقد كانت التَّماثيل من أبرز مظاهر الحضَارَات القديمة والحَضَارة الحديثة؛ لأن واحدة منها لم تذهب في عقيدة الوحدانية إلى المدى الذي وصلت إليه الحَضَارة الإسلاميَّة.
وهذه الوَحْدة في العقيدة تُطبِّع كلَّ الأُسس والنُّظم التي جاءت بها حَضَارتنا؛ فهنالك الوَحْدة في الرِّسالة، والوَحْدة في التَّشريع، والوَحْدة في الأهداف العامة، والوَحْدة في الكِيَان الإنْسَاني العام، والوَحْدة في وسائل المعيشة وطراز التَّفكير، حتَّى إنَّ الباحثين في الفُنُون الإسلاميَّة قد لاحظوا وحدة الأُسلوب والذَّوق في أنواعها المختلفة، فقطعة من العاج الأندلسي، وأخرى من النسيج المصري، وثالثة من الخزف الشامي، ورابعة من المعادن الإيرانيَّة – تبدو رغم تنوُّع أشكالها وزخرفتها ذات أسلوب واحد وطابَع واحد.
– وثاني خصائص حَضَارتنا: أنَّها إنسانيَّة النَّزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة؛ فالقرآن الذي أعلن وحدة النوع الإنْسَاني رغم تَنوُّع أعراقه ومنابته ومواطنِه، في قوله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]؛ إنَّ القرآن حين أعلَن هذه الوَحْدة الإنْسَانية العالميَّة على صعيد الحق والخير والكرامة – جعل حضارته عقدًا تنتظم فيــه جميعُ العبقـريات للشعـوب والأمم، التي خفقت فوقها راية الفتوحات الإسلاميَّة؛ ولذلك كانت كلُّ حَضَارَة تستطيع أنْ تفاخر بالعباقرة من أبناء جنس واحد وأمَّة واحدة؛ إلا الحَضَارة الإسلاميَّة، فإنَّها تفاخر بالعباقرة الذين أقاموا صَرحها من جميع الأمم والشعوب، فأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمـد، والخليل وسيبويه، والكندي والغزالي والفارابي وابن رشد، وأمثالهم مِمَّن اختلفت أصولهم، وتباينت أوطانهم – ليسوا إلا عباقرةً قدمت فيهم الحَضَارة الإسلاميَّة إلى الإنْسَانية أروَع نتاج الفِكر الإنْسَاني السليم.
– وثالث خصائص حَضَارتنا: أنَّها جعلت للمبادئ الأخلاقيَّة المحلَّ الأول في كلِّ نظمها، ومُختلف ميادين نشاطها، وهي لم تتخلَّ عن هذه المبادئ قطُّ، ولم تجعلها وسيلة لِمنفَعة دولة أو جماعة أو أفرادٍ، في الحُكم، وفي العلم، وفي التشريع، وفي الحرب، وفي السلم، وفي الاقتصاد، وفي الأسرة؛ لقد رُوعِيت المبادئ الأخلاقية تشريعًا وتطبيقًا، وبلغت في ذلك شأوًا ساميًا بعيدًا لم تبلغْه حَضَارَة في القديم والحديث، ولقد تركت الحَضَارة الإسلاميَّة في ذلك آثارًا تستحق الإعجاب، وتجعلها وحدَها من بين الحضَارَات التي كفلت سعادة الإنْسَانية سعادةً خالصةً لا يشوبها شقاء.
– ورابع هذه الخصائص: أنَّها تُؤمن بالعلم في أصدق أصوله، وترتكز على العقيدة في أصفى مبادئها، فهي خاطبَت العقل والقلب معًا، وأثارت العاطفة والفِكر في وقت واحد، وهي مَيْزة لم تشاركها فيها حَضَارَة في التَّاريخ، وسِرُّ العجب في هذه الخِصِّيصة من خصائص حَضَارتنا: أنَّها استطاعت أن تنشئ نظامًا للدولة قائمًا على مبادئ الحقِّ والعدالة، مرتكزًا على الدِّين والعقيدة، دون أن يُقيم الدين عائقًا من دون رقيِّ الدولة واطراد الحَضَارة؛ بل كان الدين من أكبر عوامل الرُّقي فيها، فمن بين جدران المساجد في بغداد ودمشق والقاهرة، وقرطبة وغرناطة – انطلقت أشعة العلم إلى أنْحاء الدنيا قاطبة.
إن الحَضَارة الإسلاميَّة هي الوحيدة التي لم يُفصل فيها الدِّين عن الدولة، مع نجاتها من كلِّ مآسي المزج بينهما كما عرفته أوروبا في القرون الوسطى، لقد كان رئيسُ الدَّولة خليفةً وأميرًا للمؤمنين، لكن الحكم عنده للحقِّ، والتشريع للمُختصِّين فيه، ولكلِّ فئة من العلماء اختصاصُهم، والجميـع يتسـاوَوْن أمام القانون، والتفاضل بالتَّقوى والخدمة العامة للناس؛ ((والله، لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها))؛رواه البخاري ومُسلم، ((الخلق كلُّهم عِيَال الله؛ فأحبُّهم إليه أنفعهم لعياله))؛ رواه البزَّار.
هذا هو الدِّين الذي قامت عليه حَضَارتنا، ليس فيه امتيازٌ لرئيس، ولا لرجل دين، ولا لشريف ولا لغني؛ {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110].
– وآخر ما نذكر من خصائص حَضَارتنا: هذا التَّسامح الديني العجيب، الذي لم تعرفه حَضَارَة مثلها قامت على الدِّين؛ إن الذي لا يؤمن بدين ولا بإله لا يبدو عجيبًا إذا نظر إلى الأديان كلِّها على حدٍّ سواء، وإذا عامـل أتباعهـا بالقسطاس المُستقيم، ولكنَّ صاحبالدين الذي يؤمن بأنَّ دينه حق، وأن عقيدته أقوم العقائد وأصحها، ثم يتاح له أن يحمل السيف، ويفتح المدن، ويستولي على الحكم، ويجلس على منصة القضاء، ثم لا يحمله إيمانُه بدينه، واعتزازُه بعقيدته على أنْ يجورَ في الحكم، أو أن ينحرف عن سنن العدالة، أو يحمل الناس على اتِّباع دينه، إن رجلاً مثل هذا لعجيب أن يكون في التَّاريخ، فكيف إذا وُجد في التَّاريخ حَضَارَةٌ قامت على الدِّين، وشُيِّدت قواعدُها على مبادئه، ثُمَّ هي من أشد ما عرف التَّاريخ تسامحًا وعدالة ورحمة وإنسانية؟!
هذا ما صنعته حَضَارتُنا، وسنَجِد له عشرات الأمثلة فيما نذكُره في أحاديثنا المُقبلة، وحسبنا أنْ نعرف أن حَضَارتَنا تنفَرد في التَّاريخ بأن الذي أقامها دينٌ واحدٌ، ولكنَّها كانت للأديان جميعًا.
وبعدُ، فأعتقد أني بلغت ما أريد من لفت الأنظار إلى دراسة حَضَارتنا، وإنْ لم أبلغ ما أريد من توفية هذا البحث حقَّه، وحَسبِي أن أعرض في الأحاديث التالية نماذجَ من روائع حَضَارتنا نستدلُّ بها على خلود الحَضَارة التي شَيَّدتها الأمة، التي وصفها أعدَلُ حاكم وأصدق قائل بأنها: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
آثار حضارتنا في التاريخ:
إنَّ الحضَارَات إنَّما تخلُد بمقدار ما تُقدمه في تاريخ الإنسانيَّة من آثار خالدة في مُختلف النَّواحي الفِكرية، والخلقية، والمادية، كما قلنا: إنَّ حَضَارتنا لعبت دورًا خطيرًا في تاريخ التقدُّم الإنْسَاني، وتركت في ميادين العقيدة والعلم، والحكم والفلسفة، والفن والأدَب وغيرها – آثارًا بعيدة المدى، قويةَ التأثير فيما وصلت إليه الحَضَارة الحديثة، فما الآثار؟ وما أهميتها؟
نستطيع أن نجمل الآثار الخالدة لحضارتنا في ميادين خمسة رئيسة:
أولاً: في مَيدان العقيدة والدِّين: فقد كان لمبادئ الحَضَارة الإسلاميَّة أثرٌ كبيرٌ في حركات الإصلاح الدِّينية التي قامت في أوروبا، مُنذ القرن السابع حتَّى عصر النَّهضة الحديثة؛ فالإسلام الذي أعلن وحدانية الله، وانفراده بالسُّلطان، وتنزيهه عن التجسيم والظلم والنَّقص، كما أعلن استقلال الإنْسَان في عبادته وصلته مع الله، وفهمه لشرائعه دون وساطة رجال الدِّين – كان عاملاً كبيرًا في تفتُّح أذهان الشُّعوب إلى هذه المبادئ القويَّة الرَّائعة، وقد كانت الشُّعوب يومئذ تَرسُف في أغلالٍ من الخصام المذهبي العنيف، والخضوع لسُلطان رجال الدِّين على أفكارهم وآرائهم وأموالهم وأبدانِهم، فمن الطَّبيعي – وقد وصلت فُتوحاته في الشَّرق والغَرب إلى ما وصلت إليه – أن تتأثر الأمم المجاورة له بمبادئه في العقيدة قبل كلِّ شيء، وهذا ما حدث فعلاً؛ إذ قام في القرن السابع الميلادي في الغَربيِّين من ينكر عبادة الصُّور، ثم قام بعدهم من يُنكر الوساطة بين الله وعباده، ويدعو إلى الاستقلال في فهم الكتب المقدَّسة بعيدًا عن سلطان رجال الدين ومُراقبتهم، ويُؤكد كثيرٌ من الباحثين أن (لوثر) في حركته الإصلاحيَّة كان متأثرًا بما قرأه للفلاسِفَة العَرب، والعلماء المسلمين من آراء في الدين والعقيدة والوحي، وقد كانت الجامعات الأوروبية في عصره لا تزالُ تعتمد على كُتُب الفلاسِفَة المُسلمين، التي ترجمت مُنذ عهد بعيد إلى اللاتينية، ونستطيع أن نؤكِّد على أنَّ حركة الفصل بين الدِّين والدولة، التي أُعلنت في الثورة الفرنسية كانت وليدة الحركات الفِكرية العنيفة التي سادت أوروبا ثلاثة قرون أو أكثر، وكان لحَضَارتنا فضل في إيقاد جذوتها عن طريق الحُرُوب الصليبية والأندلس.
ثانيًا: في مَيدان الفلسفة والعلوم، من طب ورياضيات وكيمياء وجغرافيا وفلك: أفاقت أوروبا على صوت علمائنا وفلاسفتنا يدرِّسون هذه العلوم في مساجد إشبيلية وقرطبة وغرناطة وغيرها، وكان روَّاد الغَربيين الأُول بمدارسنا شديدي الإعجاب والشغف بكُلِّ ما يستمعون إليه من هذه العلوم، في جوٍّ من الحرِّية لا يعرفون له مثيلاً في بلادهم؛ ففي الوقت الذي كان فيه علماؤنا يتحدَّثون في حلقاتهم العلميَّة ومؤلفاتهم عن دوران الأرض وكرويَّتها، وحركات الأفلاك والأجرام السماويَّة – كانت عقول الأوروبيين تمتلئ بالخرافات والأوهام عن هذه الحقائق كُلِّها؛ ومن ثَمَّ ابتدأت عند الغَربيين حركة التَّرجمة من العَربية إلى اللاتينية، وغدت كُتُب علمائنا تُدرَّس في الجامعات الغَربية؛ فقد تُرجم كتاب (القانون) في الطبِّ لابن سينا في القرن الثاني عشر، كما تُرجم كتاب (الحاوي) للرَّازي – وهو أوسع من القانون وأضخَم – في نهاية القرن الثالث عشر، وظل هذان الكتابان عمدة لتدريس الطب في الجامعات الأوروبية حتَّى القرن السادس عشر، أمَّا كتب الفلسفة فقد استمرت أكثر من ذلك، ولم يعرف الغَرب فلسفة اليونان إلاَّ عن طريق مُؤلفاتنا وترجماتنا، ومن هنا يعترف كثير من الغَربيِّين المُنصفين بأنَّنا كنا في القرون الوسطى أساتذة أوروبا مدةً لا تقل عن ستمائة سنة.
يقول العلاَّمة المستشرق “سيديو”: “كان العَرب وحدَهم حاملين لواءَ الحَضَارة الوسطى، فدحروا بربرية أوروبا التي زلزلتها غاراتُ قبائل الشمال، وسار العَرب إلى منابع فلسفة اليونان الخالدة، فلم يقفوا عند حدِّ ما اكتسبوه من كُنُوز المعرفة، بل وسعوه وفتحوا أبوابًا جديدة لدرس الطبيعة”، ويقول أيضًا: “والعَرب حين زاولوا علم الهيئة عُنُوا عناية خاصَّة بالعلوم الرياضية كلِّها؛ فكان لهم فيها القدح المعلَّى، فكانوا أساتذة لنا في هذا المضمار بالحقيقة”.
وإذا كان روجر الأوَّل قد شجَّع على تحصيل علوم العَرب في صقلية، لا سيَّما كتب الإدريسي – فإنَّ الإمبراطور فردريك الثاني لم يَبدُ أقل حضًّا على دراسة علوم العَرب وآدابهم، وكان أبناءُ ابن رشد يُقيمون ببلاط هذا الإمبراطور، فيعلمونه تاريخ النباتات والحيوانات الطبيعي، ويقول “هومبلد” في كتابه عن الكون: “والعَرب هم الذين أوجدوا الصَّيْدَلَةَ الكيماوية، ومن العَرب أتت الوصايا المُحكَمة الأولى التي انتحلتها مدرسة (ساليرم)، فانتشرت في جنوب أوروبا بعد زمَن، وأدَّت الصيدلة ومادة الطب اللتان يقوم عليهما فنُّ الشفاء إلى دراسة علم النبات والكيمياء في وقت واحدٍ، ومن طريقين مُختَلِفين، وبالعَرب فُتِحَ عهدٌ جديد لذلك العلم”.
ويقول “سيديو” عن الرَّازي وابن سينا: “إنَّهما سيطرا بكُتُبهما على مدارس الغَرب زمنًا طويلاً، وعُرف ابن سينا في أوروبا طبيبًا؛ فكان له على مدارسها سلطان مطلق مدَّة ستة قرون تقريبًا، فتُرجِم كتابه (القانون) المشتمل على خمسة أجزاء، وطُبع عدَّة مرات؛ لِعَدِّه أساسًا للدراسات في جامعات فرنسا وإيطاليا”.
ثالثًا: في ميدان اللُّغة والأدَب: فقد تأثر الغَربيُّون – خاصَّة شعراء الإسبان – بالأدَب العَربي تأثرًا كبيرًا؛ فقد دخل أدب الفُرُوسيَّة والحماسة، والمجاز والتَّخيُّلات الراقية البديعة إلى الآدَاب الغَربية، عن طريق الأدَب العَربي في الأندَلس على الخصوص؛ يقول الكاتب الإسباني المشهور “أبانيز”: “إنَّ أوروبا لم تكن تعرف الفُرُوسيَّة، ولا تدين بآدابها المرعيَّة، ولا نخوتها الحماسيَّة قبل وفود العَرب إلى الأندلس، وانتشار فُرسانهم وأبطالهم في أقطار الجنوب”.
ومِن عباقرة الأدَب في أوروبا في القرن الرابع عشر وما بعده – مَن لا يُشَكُّ أبدًا في تأثير الآدَاب العَربية على قصصهم وآدابهم؛ ففي سنة 1349هـ كتب “بوكاشيو” حكاياته المُسماة بـ “الصباحات العشرة”، وهي تَحذو حذو ألف ليلة وليلة، ومنها اقتبس شكسبير موضوع مسرحيته “العبرة بالخواتيم”، كما اقتبس لسنغ الألماني مسرحيته “ناتان الحكيم”.
وكان شوسر إمام الشعر الحديث في اللغة الإنجليزية أكبر المقتبسين من بوكاشيو في زمانه؛ فقد لَقِيَه في إيطاليا، ونظم بعد ذلك قصصه المشهورة باسم (حكايات كانتربري).
أما (دانتي)، فيؤكد كثيرٌ من النُّقاد أنَّه كان في (القصَّة الإلهيَّة) – التي يصف فيها رحلتَه إلى العالم الآخر – متأثرًا برسالة الغفران للمعرِّي، ووصف الجنة لابن عربي.
وقد تأثرت القصَّة الأوروبيَّة في نشأتها بما كان عند العَرب من فنون القصص في القُرُون الوسطى، وهي المقامات، وأخبار الفُرُوسيَّة، ومُغامرات الفرسان في سبيل المجد والعِشق، وكان لألف ليلة وليلة – بعد ترجمتها إلى اللُّغات الأوروبيَّة في القرن الثاني عشر – أثرٌ كبيرٌ جدًّا في هذا المجال؛ حتَّى إنها طُبعت منذ ذلك الحين حتَّى الآن أكثر من ثلاثمائة طبعَة في جميع لُغات أوروبا؛ حتى لَيرى عددٌ من النُّقاد الأوروبيين أن رحلات (جليفر) التي ألَّفها (سويفت)، ورحلة (روبنسون كروزو) التي ألفها (ديفوه) – مدينة لألف ليلة وليلة، ولرسالة “حي بن يقظان” للفيلسوف العَربي ابن طفيل.
ولا حاجة بنا إلى أنْ نذكر ما دَخَل اللُّغات الأوروبية على اختلافها منْ كلمات عربيَّة في مُختلف نواحي الحَيَاة؛ حتَّى إنها لتكاد تكون كما هي في اللُّغة العَربية: كالقطن، والحرير الدِّمشقي، والمسك، والشراب، والجرة، والليمون، والصِّفر، وغيرها مِمَّا لا يُحصى.
رابعًا: في ميدان التَّشريع: فقد كان لاتِّصال الطُّلاب الغَربيِّين بالمدارس الإسلاميَّة في الأندلس وغيرها – أثرٌ كبيرٌ في نقل مجموعة من الأحكام الفقهيَّة والتشريعيَّة إلى لُغاتِهم، ولم تكن أوروبا في ذلك الحين على نظام مُتقن ولا قوانين عادلة؛ حتَّى إذا كان عهد نابليون في مصر ترجمَ أشهر كُتُب الفقه المالكي إلى اللُّغة الفرنسيَّة، ومن أوائل هذه الكتب “كتاب خليل”، الذي كان نواة القانون المدني الفَرَنسي، وقد جاء مُتشابهًا إلى حدٍّ كبير مع أحكام الفقه المالكي، يقول العلامة “سيديو”: “والمذهب المالكي هو الذي يستوقفُ نظرنا على الخُصُوص؛ لما لنا من الصِّلات بعرب إفريقيَّة، وعهدت الحُكُومة الفرنسيَّة إلى الدكتور بيرون في أن يُترجم إلى الفرنسيَّة كتاب “المختصر في الفقه”، للخليل بن إسحاق بن يعقوب المتوفى سنة 1422م”.
خامسًا: في مفهوم الدَّولة وعلاقة الشَّعب بالحكومة: فقد كان العالم القديم والوسيط يُنكر على الشَّعب حقَّه في الإشراف على أعمال حُكَّامه، كما يجعلون الصِّلة بينه وبين الحاكم صلةً بين العبد وسيِّده، فالحاكم هو السيد المطلق يتصرَّف بالشَّعب كما يشاءُ، وكانت المملكة تُعدُّ ملكًا خاصًّا للملك تُورثُ عنه كما تورث بقيَّة أمواله، ويستبيحون من أجل ذلك أن تقوم الحرب بين دولة وأخرى من أجل المُطالبة بحصة أميرة في العرش، أو للخلاف على ميراث الأصهار.
أمَّا العلاقة بين الأمم المُتحاربة، فهي استباحة الغالب لكُلِّ ما في يد المغلوب، وما في وطنه من مال وعِرض وحُرِّية وكرامَة، وظَلَّ الأمر كذلك حتَّى قامت الحَضَارة الإسلاميَّة تعلن فيما تعلن من مبادئها: أن الشَّعب هو صاحب الحقِّ في الإشراف على حُكَّامه، وأن هؤلاء ليسوا إلاَّ أُجَرَاء يسهرون على مصالح الشَّعب وكرامَته بأمانة ونزاهة، وفي هذا يقع لأول مرَّة في التَّاريخ أن يحاسب فردٌ من أفراد الشَّعب حاكمَه عما يلبس، من أين جاء به؟ فلا يحكم عليه بالإعدام، ولا يُقاد إلى السجن، ولا يُنفَى من الأرض، ولكن يقدم له الحاكم حسابه حتَّى يقتنع ويقتنع الناس، ولأول مرَّة في التَّاريخ يقول أحد أفراد الرَّعيَّة لحاكمِه الأكبر: السَّلام عليك، أيُّها الأجير، فيعترف الحاكمُ بأنَّه أجير الشَّعب، عليه ما على الأجير من حقِّ الخدمة بإخلاص، والنصح بأمانة، أعلنت الحَضَارة الإسلاميَّة هذا فيما أعلنته وطبَّقته بعد ذلك، فما هي إلا نسمة الحرية والوعي تهبُّ في الشعوب المجاورة للمُجتمع الإسلامي، فتتململ، ثم تتحرَّك، ثم تثور، ثم تتحرَّر.
وكان مما أعلَنَتْه حَضَارتنا في حُرُوبها: احترام العهود، وصيانة العقائد، وترك المعابد لأهلها، وضمان حُرِّيات النَّاس وكرامتهم، فأثارت في الشُّعوب المغلوبة لحكمها روح العِزَّة والكرامة، ونبهت فيهم معاني الإنْسَانية الكريمة العزيزة.
وكان في التَّاريخ لأول مرَّة أن يشكوَ والدُ مغلوبٍ الحاكمَ الغالبَ إلى رئيسِ الدَّولة الأعلى، من أنَّ ولدَ الحاكمِ قد ضرب ولده الصَّغير خفقتَين بالسَّوط على رأسه من غير حق، ويغضب رئيس الدَّولة الأعلى، ويحاسب ولد الحاكم ويقتَص منه، ويقرع الحاكم ويؤنبه، ويقول له: “متى استعبدتم النَّاسَ وقد ولدتهم أمَّهاتُهم أحرارًا؟!”.
إنَّ هذه روح جديدة تبعثُها حَضَارتُنا في الأفراد والشعوب.
وبعد، فهذه هي بعض الآثار الخالدة لحَضَارتنا في خمسة ميادين رئيسة، هي أبرز مظاهر الحَيَاة في الأُمَم والحضَارَات؛ ومن أجْل ذلك كان لنا – نحن أبناء هذه الحَضَارة – دَين على الشُّعوب التي حرَّرتها حَضَارتنا، يجبُ أن نستردَّه لا بالتَّفاخر الكاذب، ولا بالأماني والأباطيل، بل بمعرفتنا لقَدْر أنفسنا، وقيمة حَضَارتنا، وسُمُو تُراثنا، واستحقاقنا لأَنْ نكون الأمة الوسط التي تشهد على النَّاس، وتقودهم إلى الخير والحق والكرامة، ولعلَّنا فاعلون – إن شاء الله.
الآثار الخالدة للحضارة الإسلامية:
1- في ميدان العقيدة والدين:
مهَّدت الحضارة الإسلاميَّة لحركات الإصلاح الدِّيني في أوروبا.
2- في ميدان الفلسفة والعلوم:
علَّمت أوروبا علوم الطِّب، والصيدلة، والرِّياضيات، والكيمياء، والجغرافيا، والفلك، والفلسفة، والمنطق، وغيرها.
3- وفي ميدان اللغة والأدب:
أثَّرت في الشِّعر والأدب والقصَّة والمسرح والرِّواية؛ بل وكلمات اللغة.
4- في ميدان التشريع:
نقلت أوروبا عن الحضارة الإسلاميَّة كثيرًا من التَّشريعات، فكانت نواةً لقوانينها.
5- في مفهوم الدولة وعلاقة الشعب بالحكومة:
تعلمت أوروبا الحرِّية، ورقابة الشَّعب على حُكَّامه، وآداب الشُّورى والعدل، وآداب الحرب، وأخلاق القتال.
النزعة الإنسانية:
لا يسعُ الباحث في حَضَارتنا الخالدة وآثارها إلاَّ أن يُعنى بالنَّزعة الإنْسَانية، التي تميَّزت بها حَضَارتنا عن كُلِّ الحضَارَات؛ فنَقَلَت الإنْسَانيةَ من أجواء الحقد والكراهية، والتَّفرقة والعصبيَّة إلى أجواء الحُبِّ والتسامح والتَّعاون والتساوي أمام الله، ولدى القانون، وفي كِيان المجتمع، تساويًا لا أَثَرَ فيه لاستعلاء عِرْقٍ على عرق، أو فئة على فئة، أو أمَّة على أمَّة، وإن هذه النَّزعة لَتَتَجلَّى في مبادئ حَضَارتنا وتشريعها وواقعها.
أما النَّزعة الإنْسَانية في مبادئها، فذلك حين يُعلن الإسلام أنَّ النَّاس جميعًا خُلقوا من نفس واحدة؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]؛ فالأصل البشري لأبناء البشـرية قاطبة هـو أصل واحد، ومهما تَفَرَّقَ الناس بعد ذلك إلى أمم وقبائل وبُلدان وأجناس، فإنَّما هو كتفرُّق البيت الواحد والإخْوة من أب واحد وأمٍّ واحدة، وما كان كذلك، فسبيلُ هذا الاختلاف في أجناسهم وبلدانهم أنْ يؤدي إلى تعاونهم وتعارفهم وتلاقيهم على الخير؛ ومن ذلك انبثق المبدأ الإنْسَاني الخالد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، والكل سواء، سواء عند الله في آدميَّتِهم وإنسانيتهم، لا تَمايُز بينهم إلاَّ بالتَّقوى؛ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وهم سواءٌ أمام القانون في الخُضُوع له، لا تَمايز بينهم إلاَّ بالحق؛ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 – 8]، وهم سواء في كيان المُجتمع، يتأثر قويُّهم بضعيفهم، ومجموعهم لعلم أفرادٍ منهم؛ ((مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عُضوٌ، تداعى له سائرُ الأعضاء بالحمى والسَّهر))؛ رواه مسلم وأحمد.
وأما النزعة الإنْسَانيَّة في تشريعنا الحضاري، فإنَّك لتلمس ذلك واضحًا في كل باب من أبواب التَّشريع:
– في الصَّلاة: يقف الناسُ جميعًا بين يدي الله، لا يُخصَّص مكانٌ لملك أو عظيم أو عالم.
– وفي الصَّوم: يجوع الناسُ جوعًا واحدًا، لا يفرد من بينهم أمير، أو غني، أو شريف.
– وفي الحجِّ: يلبس النَّاس لباسًا واحدًا، ويقفون موقفًا واحدًا، ويُؤدُّون منسكًا واحدًا، لا تَمييز بين قاصٍ ودانٍ، وقوي وضعيف، وأشراف وعامة.
فإذا انتقلت من ذلك إلى أحكام القانون المدني، وجدت الحقَّ هو الشِّرعة السائدة في العلاقة بين النَّاس، والعدل هو الغَرَض المقصود من التشريع، ودفع الظُّلم هو اللِّواء الذي يحمله القانون؛ ليَفِيء إليه مضطهدٌ ومظلومٌ.
فإذا انتقلت من ذلك إلى القانون الجزائي، وجدت العُقُوبة واحدة لكل من يرتكبُها من الناس، فمَن قَتَل قُتل، ومن سَرَق عُوقِب، ومن اعتدى أُدِّب، لا فرق بين أن يكون القاتل عالمًا أو جاهلاً، والمقتول أميرًا أو فلاحًا، ولا فرق بين أن يكون المعتدي أمير المؤمنين، أو صانع النسيج، والمعتدى عليه أعجميًّا أو عربيًّا، شرقيًّا أو غربيًّا؛ فالكلُّ سواءٌ في نظر القانون؛ {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178].
ويسْمُو التَّشريع إلى أرفعَ من هذا، حين يُثبت الكرامة الإنْسَانية للنَّاس جميعًا، بقطع النَّظر عن أديانهم وأعراقهم وألوانهم؛ فيقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء: 70]، هذه الكرامة هي التي تضمن للنَّاس جميعًا حقهم في الحَيَاة والعقيدة والعلم والعيش، هي للناس جميعًا، ومن واجب الدَّولة أن تكفلها لهم على قدم المُساواة بلا استثناء.
ويسمو التَّشريع فوق هذا إلى ذروة عالية من السُّمُو الإنْسَاني، حين يجعل أساس المثوبة والعقاب للناس لا على ظواهر أفعالهم، بل على نواياهم؛ ((إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن إلى قلوبكم))؛ رواه مسلم، فالنِّية هي مَحل المؤاخذة أو الإثابة؛ ((إنَّما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكل امرئ ما نوى))؛ رواه أئمة السنة كلهم، والنية المقبولة عند الله هي نيَّة الخير والنَّفع للنَّاس، وابتغاء وجه الله ومرضاته دون غَرَض مادي أو نفع تجاري؛ {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 78].
ويَبْلُغ التَّشريع أعلى ذروة من النَّزعة الإنْسَانية حين يقرر وحدة العوالم كلِّها، مِن إنسان وحيوان، ونبات وجماد، وأرض وأفلاك، في سلك العبودية لله، والخضوع لنواميس الكون، وما أروعَ ما يطلبه القرآن من المسلم أن يذكره في كلِّ ركعة من ركعات صلاته! {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 2 – 3]، إنه لواجب أن يذكر المسلم أنَّه جزء من الكون، مخلوق لإله واحد مُتصف بالرَّحمة البالغة الشَّاملة، فليكن المُسلم في هذا العالم الذي يعيش فيه وهو مُحتاج إليه مثالاً للرَّحمة، التي يتَّصف بها الله وهو غني عن العالمين.
هذه هي مظاهر النَّزعة الإنْسَانية في مبادئ حَضَارتنا وتشريعِها حين أُعلنَت للنَّاس، فكيف كان واقعها حين حكمت وانتصرت؟
هل ظلَّت تلك المبادئ ميثاقًا كميثاق حُقُوق الإنْسَان في شِرعة الأمم، تحتفل الدول بذكرى إعلانه يومًا في كل عام، بينما تمتهنه الدُّول الكبرى في كلِّ ساعة، وفي كلِّ يوم، وفي كل شهر من شهور السنة؟!
هل ظلَّت تلك المبادئ حبيسةً في البلد الذي أُعلنت فيه، كما احتبست مبادئ الثَّورة الفرنسية في فرنسا، وحرِّمت على مُستعمراتها والبلدان الواقعة تحت حكمها أو انتدابها؟!
هل نَصَبَت تماثيلَ جديدةً كما نُصِبَ تمثال الحرية في نيويورك، أول ما يراه القادم إلى تلك الدِّيار، بينما تنطق أعمال أمريكا في خارجها نطقًا يلعَن الحرية، ويهزأ بها، ويضطهد عشاقَها الأحرار؟!
لنستمع إلى التَّاريخ؛ فهو أصدق شاهد، لنستمع إلى روائع النَّزعة الإنْسَانية في حَضَارتنا، وكيف أعلنتها حقائقُ ناطقة في تصرُّفات أفرادها وحُكَّامها:
تغاضَب أبو ذرٍّ، وهو عربيٌّ من غفار، مع بلال الأسود الحبشي مولى أبي بكر – رضي الله عنه – وتطور النِّزاع بينهما إلى أن أخذَت أبا ذر الحدَّةُ، فقال لبلال: “يا ابن السوداء”، فشكاه بلال إلى النَّبي – صلَّى الله عليه وسلم – فقال لأبي ذر: ((أعيَّرته بأمه؟ إنَّك امرؤ فيك جاهلية))، فقال أبو ذر – وقد ظن الجاهليَّة هي الانحراف الأخلاقي الشَّهواني الذي لا يأتيه إلاَّ الشباب -: “على ساعتي هذه من كِبَر السِّن؟!”؛ قال: ((نعم، هم إخوانكم))؛ رواه البخاري ومسلم وغيرهما؛ فندم أبو ذر وتاب حتَّى إنَّه أمر بلالاً أن يطأه على وجهه؛ مبالغَة في التَّوبة والنَّدم.
وسرقت امرأةٌ من بني مخزوم في عهد النَّبي – صلَّى الله عليه وسلم – وجيء بها إليه لتُعَاقَب، فأهمَّ ذلك قريشًا، وقالوا: من يشفعُ لنا عند رسول الله في إسقاط الحدِّ عنها؟ ثم ذكروا أنَّ أسامة بن زيد حبيبٌ إلى قلبِ الرَّسول، فكلَّموه في أنْ يشفع لها عنده، فكلَّمه بذلك، فغضب – عليه الصَّلاة والسلام – غضبًا شديدًا، وقال لأسامة: ((أتشفعُ في حدٍّ من حدود الله؟!))، ثم قام في النَّاس خطيبًا، فقال: ((إنَّما أهلك الذين من قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدَّ، وايمُ الله، لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها))؛ رواه البخاري ومسلم وأحمد.
ولما كان عهدُ أبي بكر، كان مثال الرَّئيس المُتواضع الذي تملأ الإنْسَانيةُ قلبَه ونفسَه، فإذا هو – وهو خليفة – يأتي لبنات الحي مِمَّن فقدْنَ آباءهُن في الحُرُوب، فيحلب لهن غنَمَهنَّ، ويقول: “أرجو أن لا تغيِّرني الخلافة عن خُلقٍ كُنتُ أعتاده من قبل”.
وكان عمر مثالَ الخليفة الغيُور على الشَّعب، البارّ بالضُّعفاء، الشديد في الحقِّ، الناس عنده سواء، بل يَحرم نفسه ليعطي النَّاس، ويجوع ليشبعوا، وكان يتفقَّد النَّاس في بيوتهم ومنازلهم، وقِصَصُه في ذلك مشهورة ومعروفة.
رأى مرَّة في السوق شيخًا كبيرًا يسأل الصَّدقة، فقال له: “ما أنت يا شيخ؟” قال: أنا شيخ كبير أسأل الجزية والنَّفقة، وكان يهوديًّا من سُكَّان المدينة، فإذا بعُمرَ الإنْسَاني العظيم يقول له: “ما أنصفناك يا شيخ، أخذنا منك الجزية شابًّا، ثُم ضيعناك شيخًا”، وأخذ بيده إلى بيته، ففرض له ما كان من طَعَامه، ثُمَّ أرسل إلى خازن بيت المال يقول: “افرض لهذا وأمثاله ما يُغنيه، ويُغني عياله”، ووضع الجزية عن فُقراء أهل الذِّمة.
ولنستمع إلى ما هو أروع من هذا في تاريخ حَضَارتنا، حدَّث أسلَمُ خادمُ عمر، قال: “خرجت مع عمر ليلة، وبعُدْنا عن المدينة، ونحن نتفقَّد أهلَ المنازل النائية، فبصرنا بنار من بعيدٍ، فقال عمر: إني أرى ها هنا ركبانًا قَصرَ بهم اللَّيل والبَرد، انطلق بنا، فخرجنا نُهرول حتَّى دنونا منهم، فإذا بامرأة معها صبيان وقِدْر منصوبة على نار، وصبيانها يتَضاغون – أي: يتصايحون ويبكون – فسلَّم عمر، ثُمَّ سأل المرأة: ما بالكم؟ قالت: قصر بنا اللَّيل والبَرد، قال: وما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع، قال: وأيُّ شيء في القِدْر؟ قالت: ماءٌ أسكتهم به حتَّى يناموا، واللهُ بيننا وبين عمر – تشكو عمر، وتدعو عليه – فقال: أيْ رَحِمَكِ الله، وما يُدري عمر بكم؟ قالت: يتولَّى أمرنا، ثم يغفل عنَّا؟! فأقبل عليَّ، فقال: انطلق بنا، فخرجنا نُهرول حتَّى أتينا دار الدَّقيق، فأخرج عدلاً من دقيق، وكبَّة من شحم، وقال: احمله عليَّ، قلت: أنا أحمله عنك: قال: أنت تحمل وِزري يوم القيامة – لا أمَّ لك؟! فحملته عليه، فانطلق، وانطلقت معه إليها نُهرول، فألقى ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئًا، فجعل يقول لها: ذرِّي عليَّ وأنا أحرُّك لك، وجعَل ينفُخ تحت القِدْر، وكانت لحيَتُه عظيمَة، فرأيت الدُّخان يخرج من خلال لحيَته حتَّى طبَخ لهم، ثم أنزلها، وقال: أبغني شيئًا، فأتته بصفحةٍ فأفرغها فيها، فجعل يقول لها: أطعميهم وأنا أسطح لهم – أبسطه حتَّى يبرد – فلم يزل حتَّى شبعوا، وترك عندها فضل ذلك، وقام وقمت معه، فجعَلت تقول: جزاكَ الله خيرًا، كُنْتَ بهذا الأمرِ أوْلَى من أمير المؤمنين، فيقول: قولي خيرًا، إذا جئتِ أميرَ المؤمنين وجدتني هناك – إن شاء الله – ثُمَّ تنحَّى ناحية عنها، ثُمَّ استقبلها فربض مربضًا، فقلت له: لك شأن غير هذا؟ فلا يكلمني، حتَّى رأيت الصبية يصطرعون، ثم ناموا وهدؤوا، فقام يحمد الله، ثم أقبل عليَّ، فقال: يا أسلم، إنَّ الجوعَ أسهرهم وأبكاهم، فأحببت أن لا أنصرف حتَّى أرى ما رأيتَ”.
ويأتي عمرَ يومًا شابٌّ مصريٌّ قبطي يحمل شكوى من ابن حاكم مصر العَربي الشريف عمرو بن العاص، وقد سابق ابنَه محمدًا يومًا، فسبقه القبطي، فضربه ابنُ عمرو بن العاص، وهو يقول: أتسبقني، وأنا ابن الأكرمين؟ فيستدعي عُمَرُ الحاكمَ وابنَه، ويناول القبطيَّ الدُّرَّة، ويقول له: “اضرب ابْنَ الأكرمين”، فيقتص القبطي من ابن حاكم بلده، ثُمَّ يقول عمر: “أدرها على صلعة عمرو، فما ضربك إلا بسلطان أبيه”، ثُمَّ يلتفت إلى عمرو بن العاص وابنه، ويعلنُها مدوية خالدة: “مَتَى استعبدتم النَّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟”.
وبعد، فليس عمر وحده هو الذي صنعته حَضَارتُنا رجلاً يمثل الإنْسَانية الكاملة الرحيمة؛ ففي أبي بكر، وفي عثمان، وفي علي، وفي عمر بن عبدالعزيز، وفي صلاح الدين، وفي غيرهم من علماء حَضَارتنا وعظمائها وقادتها وعُبَّادها وفلاسفتها، في كل واحد مِن هؤلاء مَثَلٌ خالد على سُمُوِّ النَّزعة الإنْسَانيَّة في حَضَارتنا الخالدة.
إرسال تعليق