بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى ،
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
لا يكاد الباحث في تراث العرب في الجاهلية يخرج بطائلٍ يُذكر في أي من علوم الرياضيات: الحساب أو الجبر أو الهندسة أو المثلثات، ولا غرو؛ فإن ثروةَ العربي في الجاهلية وتجارتَه كانتا بُدائيتين محدودتين لا تتطلبان معرفةً مُتَمَيِّزة في أيٍّ من الحساب أو الجبر، وأنَّى له بالهندسة أو المثلثات وهو لا يفتأ يتنقل بأنعامه وخيوله من مكانٍ إلى آخر، ولا يرى في القصورِ أو العمائر ما يُشبع رغبتَه، ويُسعد جوانبَه، ولسانُ حاله يقول:
لَبَيْتٌ تَخفِقُ الأرواحُ فيه
أحبُّ إليَّ من قصرٍ مُنيفِ
بَيْدَ أن الباحثَ لا يعدم أن يجد هنا أو هناك أبياتًا من الشعر تتضمَّنُ مسألةً حسابية أو مسألة جبرية لا تعدو المجهولَ الواحد، من ذلك ما يُروى عن زرقاءِ اليمامة أنه كانت لها قَطَاة، فمرَّ بها سِرب من القطا فنظرت إليه وقالت:
يا ليت ذا القَطا لنا
ومِثْل نصفِه معهْ
إلى قطاةِ أهلِنا
إذًا لنا قطًا مِائَهْ
وقيل: كانت لها حمامة، فمر بها حمامٌ فقالت:
ليتَ الحَمَامَ لِيَهْ
إلى حمامتِيَهْ
ونصفه قَدِيَهْ
صارَ الحَمامُ مِيَهْ
فوقع في شبكة صائد، فوجدوه ستًّا وستين كما قالت.
وقد أجاب النابغة الذبياني مسألتها إذ أدرك الحلَّ بذكائه، (ومن المعروف أن الحل هو العدد الذي يحقق المعادلة: س+ س/2 +1= 100).
فذكره في معلَّقته ضمن الأبيات الآتية:
احكُمْ كحُكمِ فتاةِ الحيِّ إذ نظرتْ
إلى حَمامٍ شِراعٍ واردِ الثَّمَدِ[1]
يَحفُّه جانبَا نِيقٍ وتُتْبِعُه
مثلَ الزجاجةِ لم تَكْحَلْ من الرَّمَدِ[2]
قالتْ: ألا ليتما هذا الحمامُ لنا
إلى حمامتِنا أو نصفُهفَقَدِ[3]
فحسَّبوُه فألفَوْه كما زعمتْ
تسعًا وتسعين لم تَنْقُصْ ولم تَزِدِ
فكمَّلت مائةً فيها حَمَامَتُها
وأسرعت حِسْبةً في ذلك العددِ
ولقد ظل أمرُ العرب في الجاهلية كذلك حتى جاء الإسلام، وسطع نورُه في صدورهم، وتجاوبت معه عقولُهم الصافية، وأذهانهم الوقَّادة، فتغيَّرتْ أحوالُهم، وتبدَّلت أوضاعُهم، وصاروا جنودَه الأبرار، وانطلقوا به يفتحون البلدان، ويعمرون القلوب بالإيمان، إنما يبتغون فضل الله ورضوانه، كالنور يهزم جحافل الظلام.
حتى إذا كانت لهم الفتوحات، وامتد سلطانُ الإسلام طولاً من بحر الصين إلى بحر الظلمات، وعرضًا من بحر الهند إلى أعالي القوقاز، ما كان منهم إلا أنْ نَفَرَ من كل فرقة منهم طائفةٌ ليتفقهوا في الدِّين، مستجيبين لآيات الكتاب الكريم.
وما عسى المؤمن المسلم الواعي مداركَ هذا الدِّينِ وغاياته وأهدافه، ما عساه يفعل وهو يتلو قوله – سبحانه -: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ﴾ [الإسراء: 12] إلا أن يُذْعن إلى أمر الله، ويتفقَّه في الحساب؟ والحساب إنما هو معارفُ متضحة، وبراهينُ منتظمة، ينشأ عنها في الغالب عقلٌ مضيء دَرِبٌ على الصواب، وفي كتاب الله أوامرُ وتكاليف جديدة تُعْنَى بالإرث وبالمعاملات وبالديون، من ذلك قوله – سبحانه وتعالى -:
﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ [النساء: 11، 12].
وهذه الأمور تقتضي أن يتوافر بين المسلمين علماءُ يدركون مراميَها، وينفذون ما جاء فيها، وهناك آياتٌ أخرى في المعاملات، وفي الديون، وفي الغنائم.
كذلك فإن السُّنَّة تُرَغِّب في تعلُّم الفرائض وتحث عليه، من ذلك قوله – عليه الصلاة والسلام – فيما رواه ابن مسعود – رضي الله عنه -: ((تعلَّموا القرآن، وعلِّموه الناس، وتعلموا الفرائض وعلِّموها؛ فإني امرؤٌ مقبوض، والعلم مرفوع، ويوشك أن يختلف الناسُ في الفريضة والمسألة، فلا يجدان أحدًا يخبرهما))؛ رواه أحمد والترمذي والنسائي والحاكم.
وهكذا كانت تعاليم الإسلام عونًا ومعينًا للإنسان المسلم في أن يبدِّدَ سُحُب ظلام الجهل، فكانت هذه الوثبة العلمية المباركة، وغدا أحفادُ العربي الأمي روَّادَ العلوم النافعة، بل صاروا أساتذة الدنيا بعد أن كانوا في إحدى زواياها مهمَلين، والناس من حولهم فيهم زاهدين.
أجل كانت وثبةً جامعة شاملة لكل العلوم النافعة، ومنها – بالطبع – علوم الرياضيات التي تنشط العقل، وتصلح أمور العباد والبلاد، وقد تناول المسلمون الرياضيات بالبحث والدراسة وربطوها بواقعهم وبحياتهم وسبل معيشتهم؛ ومن ثَم فقد تميزت الرياضيات عند المسلمين – من أول عهدهم بالرياضيات – بالمزج العميق بين الأماني الهادفة إلى حل المسائل التي تطرحها الحياةُ العملية، والعمل الزاخم في الفكر النظري المتعلق بأسرار الكون؛ استجابةً لِما جاء في كتاب الله وسنَّة نبيِّه، مثل قوله – سبحانه -: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101].
وعلم الحساب ألصقُ علوم الرياضيات بالناس، وأكثرها استعمالاً، وهو أول مراقي العلوم العددية في مجموعة الرياضيات.
________________________________________
[1] احكُم: أي كن حكيمًا ولا تُخطئ في أمري، وروي “واحكم” كما رُوي “فاحكم”؛ شراع: بالشين المعجمة، جمع شارعة، يريد التي شرعت في الماء، ويروى بالسين المهملة جمع سريعة؛ الثَّمد: الماء القليل.
[2] يحفه: أي يحيط به؛ وجانباه: ناحيتاه، النِّيق: الجبل.
[3] فَقَدِ: فحسْب.
إرسال تعليق