إياح حتب… الأم بقلم:ا.د إبراهيم محمد مرجونة

إياح حتب… الأم بقلم:ا.د إبراهيم محمد مرجونة



مقال: إياح حتب… الأم
بقلم:
ا.د إبراهيم محمد مرجونة 

لم تكن إياح حتب أمّاً تحفظ أبناءها وتغفو بالقرب من مواقد الأسرة فحسب. كانت أمّاً تحمل وطناً بأكمله في قلبها، تُرضع أبناءها اللبن، وتُرضعهم معه معنى الانتماء.

 في اللحظات التي تهاوت فيها القيم، وداهم الاحتلال ضمير البلاد، خرجت هي من ظلال القصر إلى ساحة الفعل الوطني، لتعلن أن الأمومة في مصر ليست عاطفة عابرة، بل عبقرية دولة وقدرة على صناعة تاريخ.

زوجها كان الملك سقنن رع … ذلك الذي سقط شهيداً في مواجهة الهكسوس. رأت جثمانه المثخّن بالجروح فعرفت أن خصومة الوطن ليست سياسة، بل دم. ومن هنا بدأت مهمتها الحقيقية: تحويل المأساة إلى وعي، والحزن إلى مشروع تحرير. لم تنهزم حين انهزم جسده، بل أعادت البناء في صمت الأم العارفة بمعنى الإرث.


ربّت كامس ليصبح قائد المقاومة الأول، وهي التي غرست فيه أن المعركة ليست خياراً، بل قدر من يريد الحياة بكرامة. 

ثم أعدت أخاه الأصغر أحمس، الصبي الذي سيكبر على عينيها، ليمسك مشعل التحرير ويكتب الفصل الأخير من زمن الاحتلال. 

لم تكن تربيتها لأبنائها تربية اجساد، بل تربية أدوار: صنعت منهم أدوات التحرير، وصنعت التحرير داخل أرواحهم قبل أن يصنعوه على الأرض.

حتى بناتها لم يكنّ خارج هذا المشروع، وأبرزهن أحمس نفرتاري، التي حملت الوجه الروحي للحضارة المصرية في زمن إعادة التأسيس، فكانت رمزًا لاستعادة تقديس الجذور والثقة في الذات.

إننا حين نتأمل فعلها ونتتبع سيرتها، سنجد أنها أعادت تأسيس "المعنى المصري"؛ أعادت تعريف مفهوم أن يكون الإنسان "مصرّيًا". لم يعد المصري ابن الأرض فقط، بل ابن ذاكرة مشتركة، ابن تاريخ يرفض الانكسار، ابن قيمة اسمها الكرامة. وهذا هو جوهر الهوية: ليست مجموعة رموز وشعارات، بل قرار وجود: نحن هنا، ولن نُمحى.


فالهوية في فلسفة إياح حتب لم تكن خطابًا نظريًا، بل ممارسة حية: كانت تصنع المقاتل لا كآلة للقتال، بل كابن لوطن، يعرف لماذا يقاتل وماذا يحرر. كانت تبحث عن جوهر الأمة لا عن حدودها، وعن روح الناس قبل حدود الجغرافيا. 

وفي ذلك تأصيلٌ لمفهوم أن الانتماء ليس انفعالًا ظرفيًا، بل بناء تراكمي عميق، يربط الفرد بتاريخ الكل، ويمنحه شعورًا بأن المعركة هي معركته الشخصية.

لقد وضعت اللبنة الأولى في بناء الاستراتيجية العسكرية والسياسية التي سار عليها أحمس لتحرير البلاد. ثم تركت لنا رمزًا خالدًا في الوجدان الشعبي؛ تلك الصيحة التي ظل المصريون يهتفون بها عبر القرون: “وحوي يا وحوي إياحة”. لم تكن مجرد صيحة فرح، كانت استعادة لذكرى امرأة أعادت لأمةٍ وعيها بنفسها. ومن هنا تحوّلت من شخصية تاريخية إلى رمز دائم في ذاكرة مصر.



إياح حتب اليوم ليست صفحة في تاريخ الماضي، بل حاضرة في فلسفة الوجود المصري نفسه. تُعلّم هذا الجيل وكل الأجيال أن الهوية لا تُمنح، بل تُبنى. وأن الوطن ليس جغرافيا فحسب، بل منظومة قيم يصنعها الأحرار ويورثونها لأبنائهم. وأن الأم، في بلاد كمصر، ليست فقط من تُنجب، بل من تُربي فكرة، وتزرع مبدأ، وتشكّل عقلًا يعرف أن كرامته لا يُساوم عليها.

وهكذا تبقى إياح حتب أيقونة تتجاوز زمنها. رمزًا نقيًا لمعنى الأم التي تُخرّج رجالًا يحملون الوطن، لا كواجب سياسي، بل كمعنى وجود. ذلك هو السر الذي جعل من مصر أمة لا تنكسر. لأن فيها دائمًا أمًا تشبه إياح حتب… تحمل في قلبها جيلاً وفي رحمها وطنًا، وتقول للدنيا: هنا تُصنع مصر.

هنا تصنع مصر

اكتب تعليق

أحدث أقدم