مقال بعنوان: عجبي ؟!
بقلم...ا.د ابراهيم محمد مرجونة
لا توجد كلمة شكّلت وجدان المصريين في العصر الحديث مثل تلك التي ختم بها صلاح جاهين رباعياته: “عجبي!”. هذه اللفظة القصيرة، التي تبدو في ظاهرها مجرد دهشة عابرة، تحولت في كتاباته إلى مفتاح فلسفي يكشف العمق الحقيقي للشخصية المصرية، ويعبر عن تلك الروح التي تجيد الوقوف على خطّين متوازيين: الضحكة التي تحمل مرارة، والحكمة التي تتخفّى خلف بساطة كلام الناس.
فـ“عجبي” ليست مجرد نهاية للرباعية، بل هي بداية أسئلة أكبر. إنها استغراب وجودي، وسخرية لاذعة من تناقضات البشر، واعتراف بأن الحكمة مهما اتسعت لن تفسر كل ما حولنا. وهي في الوقت نفسه اللغة اليومية للمصري الذي يتعامل مع الحياة بوعي داخلي لا يحتاج إلى تنظير أو فلسفة أكاديمية؛ وعي يجمع بين الإيمان والشك، وبين الرضا والتمرّد، وبين الحيلة والبراءة.
لقد التقط جاهين في هذه الكلمة جوهر الوجدان المصري. فالمصري يضحك حتى وهو يعرف أن الألم يسكن قلبه، ويسخر من قسوة القدر وهو يتعامل معه بصلابة لا تخلو من الطيبة. “عجبي” تختصر هذا كله؛ ليست شكوى ولا استسلامًا، بل طريقة ذكية لمواجهة الواقع، كأنها آلية مقاومة مصرية قديمة تحوّل القهر إلى ابتسامة، وتضع الملح على الجرح دون أن تُخفيه.
وفي بساطة تبدو طفلية، كان جاهين يطرح أسئلة كبرى عن الوجود والحرية والقدر. رباعياته تناقش أعقد القضايا، لكن في لغة عامية خفيفة تُشعر القارئ أن الفلسفة يمكن أن تولد من قلب الشارع، وأن الحكمة قد تنطق بها أمّ بسيطة أو فلاح عجوز، لا فيلسوف يرتدي معطفًا ثقيلًا من المصطلحات. ومن هنا جاءت قيمة “عجبي”: كلمة تختصر دهشة الشاعر وهي دهشة المصري في الوقت ذاته، دهشة يرى وراءها العالم بعيون قادرة على الفهم دون ادعاء امتلاك الحقيقة.
وفي كثير من رباعياته كان جاهين يعترف بأن الإنسان كتلة من التناقضات: يضحك ويبكي في اللحظة نفسها، يؤمن ويكفر في السطر ذاته، يخاف ويتشجع في الوقت ذاته. وهذه الازدواجية ليست ضعفًا بل ملمحًا عميقًا في الهوية المصرية التي تعيش بين قطبين دون أن تفقد توازنها. وهنا تأتي “عجبي” كخاتمة طبيعية، تنهيدة قصيرة تقول إن الحياة لغز كبير، وإن الإنسان أصغر من الكون، لكنه أكبر من أن ينكسر.
لقد بقيت “عجبي” حيّة لأنها كلمة حقيقية، خرجت من قلب شاعر رأى العالم بصدق، ولم يخجل من تناقضه أو وجعه. ولأنها تشبه صوت المصري حين يواجه الحب أو الظلم أو الفقد أو الفرح: صوت يقول كل شيء ولا يقول شيئًا في الوقت نفسه، لكنه مفهوم بلا شرح. وهكذا لم يكن جاهين يكتب رباعيات بقدر ما كان يكتب مفاتيح لفهم روح المصري، ويجعل من “عجبي” الخلاصة المكثّفة لفلسفة بلد كامل يرى الحياة بعينٍ تندهش وتبتسم وتتمرّد وتستسلم… في اللحظة ذاتها.
هذه هي قوة الكلمة التي جعلها جاهين توقيعه في نهاية كل رباعية. كلمة واحدة، لكنها تحمل وجدان أمّة بأكملها.
إرسال تعليق