بقلم \ المفكر العربى الدكتورخالد محمودعبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لا شكَّ فيه أنَّ الناظر لتاريخ الدعوة الإسلامية يَجد أنَّ أول ما ابتدأت به: إصلاح باطن الإنسان وتزكيته؛ إذ إنَّ صلاح الإنسان متوقِّف على صلاح ما يَعقِد عليه قلبه[1].
ثم إنَّ البدء بلا إله إلا الله في أُولى مراحل الرسالة لم يكن عبثًا، لا سيما إذا علمْنا أنه صلى الله عليه وسلم ظلَّ يدعو الناس بمكة ثلاث عشرة سنة، لا يَذكر لهم شيئًا مِن التشريعات التي سوف تَحكم المجتمع فيما بعد، والقصد من ذلك أن تعمل العقيدةُ عملَها في نفوس المؤمنين لتُولد حركة الإصلاح في هذا الكون، ولتُحقِّق معنى الاستخلاف الذي أراده الله.
فالقرآن الكريم أُنزل لمقاصد كثيرة، وغايات متعدِّدة، كلها تتفق على حقيقة واحدة، وهي: ضبط وجدان الإنسان عن طريق تقويم أخلاقه وإرشاده إلى طريق الهداية والفلاح، وهذا كله لا يتأتَّى إلا حينما تُلامس العقيدة بمقاصدها قلبَ المؤمن فتدفعه لتحصيل خيرَي الدنيا والآخرة.
كل هذا يعطينا قراءةً واضحةً على أنَّ أول ما تقوم به التربية الإسلامية هو تطهير وجدان المتعلِّم مِن جميع ما يُمكن أن يؤثر عليه وعلى مساره سلبًا، وتنقيته مِن كل الشوائب والرذائل التي تُفسد طبع الإنسان وذَوقه، وهذا كله يدلُّ صراحةً على أهمية الوجدان في التربية الإسلامية؛ إذ يُعتبَر هو المحرِّك الأول والأخير الذي يصنَع سلوك الفرد، وكما هو معلوم أنَّ مِن أعظم أهداف التربية الإسلامية إصلاحَ هذا السلوكِ وتقويمَه، وهذا لا يتأتَّى إلا بالعناية بوجدان المتعلِّم عنايةً بالغةً.
كما لا يخفى على أيِّ باحث في العلوم الشرعية أن الإنسان يولد على الفطرة[2]، وهو مزوَّد لفعل الخير أو الشر بدافع الإرادة التي ميَّزه الله بها؛ يقول تعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 7، 8]، ويقول سبحانه: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 10]، “فهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شرٌّ، وإنَّ هذه القدرة كامنة في كيانه في صورة استعداد، والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية إنما تُوقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتُوجِّهها هنا أو هناك، ولكنها لا تخلقها خلقًا؛ لأنها مخلوقة فطرةً، وكائنة طبعًا، وكامنة إلهامًا”[3]، ومن هنا نلمس أن للوجدان في التربية الإسلامية مكانة بالغة ومنزلة عالية.
إنَّ القرآن الكريم جاء ليوقظ العقول ويخاطب القلوب بلغة مَنقوشة في تلافيف كياننا، لغة نعرفها جيدًا، تدخل القلوب دون استئذان، تُحيي النفس وتحرِّك الوجدان؛ لتأتي الأعمال موافقةً لصحيح السنَّة وهدْي القرآن.
إنَّ هدف التربية الإسلامية الأول والأخير وقاية ضمير المتعلِّم مِن العثرات والشك والحيرة؛ وذلك بتربيةٍ وجدانية سليمة تلامس مشاعره وعواطفه، وتضبط سلوكه وانفعالاتِه.
ولذلك فلا غرابة أن نجد من علماء المسلمين الأوائل من عالج موضوع الوجدان وتحدَّث عن أهميته، بل وجعله قضيةً لا تتجزأ عن التربية الإسلامية؛ إذ يُعتبر المؤثر الأول الذي يصنع سلوك الفرد، الشيء الذي يجعل هذه الوجدانيات تختلف من شخص لآخر، وفي ذلك يقول ابن تيمية: “الوجدانيات الباطنية كإدراك كل أحد جوعه وألمه ولذَّتَه، وهذه كلها جزئيات؛ بل هذه لا يشترك الناس في إدراك كل جزئيٍّ منها، كما قد يشتركون في إدراك بعض الحسيات المنفصلة كالشمس والقمر، ففيها من الخصوص في المُدْرِكِ وَالمُدْرَكِ ما ليس في الحسيات المنفصلة وإن اشتركوا في نوعها فهي تشبه العاديات، ولم يقيموا حجة على وجوب تساوي النفوس في هذه الأحوال”[4].
ومِن أجمل ما يمكن الوقوف عليه في ختام هذا المبحث: أبيات للشاعر طانيوس عبده[5]؛ إذ جعل الإيمان محله الوجدان بقوله:
زعمَ الأُلى ضَلُّوا السبيل بأننا
بالعِلمِ نَسْتَغْني عن الأديانِ
لكنهم لو أمعنُوا وتَبَصَّروا
لرأوا جلالَ فضيلةِ الإِيمانِ
فالدِّينُ للإنسانِ أعظمُ سلوة
بل إنه جزءٌ من الوجْدانِ[6]
________________________________________
[1] ابن عاشور: أصول النظام الاجتماعي (ص: 51).
[2] كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري، باب إذا أسلم الصبي فمات (2 / 95).
[3] في ظلال القرآن؛ سيد قطب (6 / 3917).
[4] مجموع الفتاوى (9 / 220).
[5] هو طانيوس بن متري عبده، من كبار مترجمي القصص الروائية عن الفرنسية، ترجم منها عددًا لم يتفق لكاتب عربي سواه أن نشر مثله، وله نظْم كثير، ولد في بيروت، ومال إلى الموسيقا فعَمِل مُلحِّنًا في فرقة تمثيلية، وكان سريعَ الترجمة، يتصرَّف بالأصل المنقول عنه، زيادةً واختصارًا، وفي ديباجته طلاوة خلَّص بها نثره وأكثرَ شعرِه من التعمُّل، من قصصه المترجمة: (البؤساء) وغير ذلك، وهو كثير؛ ينظر: الأعلام؛ الزركلي (3 / 219).
[6] مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي؛ محمد نجيب (3 / 496).
إرسال تعليق